المنتحر يرحمه الرحمن!

 

كلما جاءت حادثة انتحار شاب أو شخص، دار النقاش والحوار، والجدل، في حال هذا المنتحر، وبخاصة عندما يُراد ذكر رأي الدين في هذا المنتحر، وهل لانتحاره علاقة بالدين قُربًا أو ابتعادا منه؟ وما مصير هذا المنتحر؟ بين من يرى أنه في النار، ومن يرى أنه يستحق الرحمة والشفقة على حاله، في الدنيا والآخرة.

وليست لدينا مشكلة في الحوار في الموضوع، لكن الأزمة أن بعض المنتسبين للدين، يجزمون ويتكلمون في مصائر الناس وكأنهم وكلاء عن الله في أرضه وسمائه، بأن من انتحر في نار جهنم خالدا أبدا فيها، والأزمة الأكبر في كلامهم أن الكلام منصب على حالة معينة معروفة، وهي حالات انتحار مؤخرا في مصر، كالشاب الذي ألقى بنفسه من فوق برج القاهرة، أو من ألقى بنفسه تحت عجلات القطار.

والأمر يحتاج لوقفات منصفة، تبين روح الدين وسماحته، في نظرته للحظات الضعف الإنساني، ولحظات اليأس من الواقع والحياة والناس، وموقفنا الديني والإنساني من مثل هذه الحالات.

أولا: قتل النفس محرم شرعا، سواء من قتل نفسا بغير حق، كما قال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، أو كان قتل الإنسان نفسه يقول الله عز وجل: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما).  

ثانيا: المنتحر ليس كافرا، ولا يوجد دليل صحيح قوي يقول بذلك، فقاتل غيره لم يحكم عليه الشرع بأنه كافر، رغم أن الله عنف فاعلها فقال عنه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، فما بالنا بقاتل نفسه وهو أقل جرما من قتل الغير، من حيث المقارنة بين الفعلين.

ثالثا: لا يعرف مصائر الناس يوم القيامة إلا خالقهم سبحانه وتعالى، ولا نملك أن نحكم على فعل أنه يودي بصاحبه إلى نار جهنم، إلا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، لا يتطرق الشك أو الضعف إليه، وهو ما يقع فيه للأسف بعض من يتناولون حالات الناس بعد وفاتها، فقد قال القرآن الكريم على لسان رسوله عن المصير في الآخرة: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ). بل قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته.

رابعا: يستشهد بعض من يتسرعون في الحكم على المنتحر، جازمين بأنه في النار، بنصوص تتحدث بالمطلق عن مصير المنتحر، وأنه يعذب بما انتحر به، وهي أحاديث واردة في مقام التحذير والترهيب من الانتحار، وقتل النفس، لكن إذا مات إنسان وجب علينا أن نتحدث عن رحمة الله، ورجاء التوبة له، والدعاء لمن مات، فرحمة الله أوسع من غضبه، وقال تعالى عن نفسه: (ورحمتي وسعت كل شيء)، وقال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) والمنتحر لم يمت كافرا، ولا مشركا بالله، فهو داخل في إطار رحمة الله تعالى.

ليس كافرا في السنة

وقد ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد أن المنتحر ليس بكافر، وأنه لو له من عمل صالح في حياته، يشفع له عند ربه، ويغفر له به، فقد ورد في صحيح الإمام مسلم هذا الحديث العظيم، أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ (قال: حصن كان لدوس في الجاهلية) فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم وليديه فاغفر”.

قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: في هذا الحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة، فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة. وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار). [1]

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالمغفرة لمنتحر، وهذا الإمام النووي أحد أهم وأكبر علماء الأمة الإسلامية يفهم من النص، أن المنتحر ليس بكافر، وليس مقطوعا بحال المنتحر بأنه في النار، وأنه في حكم مشيئة الله تعالى، ومغفرة الله أقرب من عقوبته، ورحمته أسبق من غضبه سبحانه وتعالى.

خامسا: ليس كل منتحر فاقد للإيمان بالله، أو مقطوع الصلة بربه، فقد يكون الإنسان مصليا عابدا لله، لكنه يمر بأزمة نفسية خانقة، تفقده صوابه وتفكيره، وقد انتحر صحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل معنى ذلك أنه لم يكن يصلي؟ أو لم يكن مؤمنا؟ لا، بل إنه كان صحابيا وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتحمل جو المدينة المنورة الصحي فانتحر، وهو ما يجعلنا نرفض كل تفسير لهذه المشكلات النفسية بأن مصدره عدم الإيمان، نعم الإيمان جزء من علاج الإنسان، وجزء مهم بلا شك، لكن لا بد معه من علاج بدني ونفسي، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: “تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله”.

سادسا: بدل أن نشغل أنفسنا بمصير المنتحر، ولماذا انتحر؟ علينا أن ننشغل بواجبنا نحو مثل هذه الحالات، واجبنا كمؤسسات دينية لم تقم بدورها مع الشباب، ولم تطور من خطابها خطابا يلبي حاجاتهم، ويشبع حاجاتهم الروحية والعقلية، ولا نكون كدار الإفتاء المصرية، التي تحولت لفرع للشؤون المعنوية لا هم لها ليل نهار سوى الحديث عن استبيان: هل أنت مع نشر فيديوهات الانتحار أم لا؟ ولم تقم باستبيان تسأل الناس: لماذا ينتحر الشباب؟ وهل قصرت الدولة معهم أم لا؟ وما حكم نحر المواطن المصري على يدي النظام، بتصفيته خارج القانون، وبتصفيته داخل السجون بحرمانه من العلاج؟ وبفض الاعتصامات السلمية؟ وبالحكم بالإعدام على معارضين سياسيين تصدق عليها دار الإفتاء للأسف؟!!

أصابع الاتهام

إن المجرم الأول الذي لا بد أن تشير إليه أصابع الاتهام: هو النظام المصري بقيادة السيسي، ومن وراءه، فهؤلاء السبب الرئيس في انتحار الشباب، وشعورهم بأن الموت أرحم بهم من الحياة وأهلها، وهي نظرة مخطئة بلا شك، لكن ليس دورنا البحث عن أسباب عند من ماتوا، بل دورنا البحث عن أسباب واضحة وبينة لكل إنسان عند من يحكمون هذه البلاد، ويحرمون الناس من أقل حقوقهم، من حق الحياة الكريمة.

بدل أن نعمل مشرط التشريح في جسد من مات مظلوما، علينا أن نعمله في جسد الأنظمة المستبدة، لننهي استبدادهم، بالعمل على تحرير كل مظلوم من نير الظلم في المعتقلات والسجون والحياة، علينا أن نفكر فيمن مات حتى لا يموت غيره، علينا أن ندرك الإنسان الحي، أما المنتحر فيرحمه الرحمن.


[1] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (2/132،131).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه