ماذا فعلتِ بنا يا معرّةَ النّعمان؟!

 

حين رأيت أشلاء معرة النعمان التي تمزق القلب متناثرة على حائط فيس بوك، وشاهدتُ الشّهداء ممدّدين على حسابات العالم الأزرق، بينما النّاشطونَ يوثّقون بالصّور تيه اللاجئين في العراء المر، عبستُ، دعوتُ الله، شتمتُ، تألمتُ، تفاعلتُ بـما “أحزنني” عدة مرات، ثم جلست مع العائلة أتابع مسرحية كوميدية قديمة لـ “محمود جبر” وأقهقه أمام التلفاز ملء شدقي.

ما الذي نفعله مع كلّ مجزرة؟

هل تريدون أن أكذب عليكم؟ هذا ما حصل بالفعل.. وهذا ما كان يحصل دوما عند كل مأساة، لا أستطيع التنفس تحت الحزن طويلا، إن هي إلا هنيهات، لأعاود الخروج إلى سطح حياتي العادية، لأعاود السؤال عن غداء اليوم، والشجار حول فرشاة أسناني التي اختفت عن رف المغسلة، والحيرة بشأن ملابس مشوار الغد، والتذمر من الماسكارا الرخيصة التي تجعل رموشي تتساقط.

على قطنة إزالة المكياج سقطت ثلاثة رموش، في معرة النعمان سقط أكثر من 90 شهيدا، هل أجرؤ على أن أسأل نفسي، أي الأمرين أقلقني أكثر؟

الألم يسمم قلبي، وأنا لا أستطيع تعاطيه إلا كالدواء، بمقدار كبسولة في اليوم، إني بلا إرادة مني، أشيح وجهي عن صور الضحايا، وأهجر مواقع التواصل الاجتماعي عند كل مأساة، وأنخرط أكثر في حياتي العادية السخيفة، ويتعاظم قلقي على أمور لم أكن لأقلق عليها من قبل بهذا القدر، وكأنّي بفعلي هذا أورط نفسي في واقعي أكثر، لكي أشوش على مشاهد واقعهم التي تأتيني من خلف جدران التعامي، والمحاولات الفاشلة لصمّ الآذان.

أعترفُ لكم بأنّني أجبن من أن أواجه الحزن وأنا هنا، أتقلب في رفاه دولة أوربية ثرية، حتى وأنا أعيش على خط فقرها الشاهق، وأنّني أجبن من التفكير بالناس الذين يفترشون الحقول، حيث تصفر الريح الباردة، و أنا بملابسي الخفيفة في هذا الشتاء القارس، لأن جهاز التدفئة في غرفتي يشع تحت نافذتي دفئا لذيذا لا ينقطع.

بم أواجه هذا الألم؟ وقولوا لي وكيف سأستطيع أن أبتلع شريحة الخبز المدهونة بالزبدة والعسل، بعد رؤيتي عجوزا تحتضن قدورها الألمنيوم الفارغة، وهي على طريق النزوح إلى لا مكان؟ وكيف سأستطيع أن أقبل دعوة الشركة لاحتفال يحييه عازف بيانو، بعد رؤيتي لأطفال يمضون لياليهم القارسة على هدير الطائرات تحت شجر الزيتون في العراء في درجة حرارةٍ تحت الصّفر؟!

هذا الألم الذي سينقض على قلبي بمجرد أن أسمح له بالدخول إلى حياتي، ليس حزنا صرفا، بمقدار ما هو شعور عارم بذنب كبير، غول عملاق لم أستطع يوما مواجهته، وفي كل ما يجري لا يؤرقني إلا سؤال واحد فقط: لماذا أنا هنا حيث أنا، وهم هناك؟

ماذا لو كنتُ هناك؟

وماذا الذي كان سيحصل لو لم يجر في تلك الليلة ذاك الجدال الحاد بشأن السفر بين أمي وأبي، بعد الغارة الأخيرة؟ ماذا لو لم يعاين أبي شظايا الصاروخ الملتهبة بيده على بلاط شرفتنا ليقرر الرحيل أخيرا؟ وماذا كان سيحصل لو اكتشف عسكري الحدود “الجندرما” التركي في جرابلس كذبتي، وبأني لست على وشك الزواج بابن عمي في القرية التركية المجاورة، فيشتمني بكلمات لا أفهمها ثم يمنع عبوري؟ وماذا كان سيحصل لو فضحني ارتجافي عند كوة تسجيل الخروج في مطار إسطنبول، وأنا أقدم للضابط جوازا لا يخصني يحمل فيزا ألمانية؟

والجواب: لكنت بقيت هناك حيث هم، دون أن يكون لدي أدنى فكرة عن الرفاه الذي يعيشه من هم هنا حيث أنا الآن.

وفي مواجهة هذا الغول الكبير، كنت من قبل أنفس عن ألمي بلوم العالم، وشتم الدول الكبرى، والتنافس مع الشعوب الأخرى على فظاعة المأساة، ولعن بشار الأسد على فيس بوك ليل نهار، وكنت أنفس عنه بلوم من كنت أرى أن تعاطفهم غير كاف من وجهة نظري، أو ممن ضبطتهم في قلب المأساة يذهبون إلى حفل، أو يلقون بنكتة، أو يلتقطون صورة بابتسامة عريضة في مطعم. ولكن كل منافذ التنفيس هذه لم تفلح في تخليصي من ثقل السؤال العملاق:
لماذا أنا هنا آمنة مطمئنة أستمتع بحياتي وهم هناك في قلب الجحيم؟ ولماذا رغم فجاعة المأساة أجدني عاجزة عن التوقف عن استمتاعي بها؟ ولذا كنت أكتب منشورات غاضبة وحزينة، مع يقيني الكامل بأنها لن تحدث في الواقع هناك، حيثُ اشتعالِ المأساةَ، أي فرق، إنّهم لا يقرؤون ما نكتب، ولا وقت لديهم إلّا للبحث عن قبسٍ من نار،ٍ يتدفّأ به أطفالهم.

 نعم كنت أستصرخ وأنتحب وأشتم، ولكن وكل ما كنت أفعله في الحقيقة أفعله لأجل نفسي، لأجل أن أستطيع مواجهة هذا الشعور الكبير بالذنب.

إنّنا نكتبُ لنحتفظ بمنشوراتنا لتكونَ أدلّة براءة أمام محكمة ضمائرنا، ونلتقط الصور في الاعتصامات لنقدّمها لهذه المحكمة، كإثبات وجود لنا أثناء وقوع المأساة.

لكن المأساة لن يخفف وطأها منشور غاضب ولا شتائم نابية ولا إثباتات وجود، والمأساة لن يلغي وجودها تعامينا عنها والهرب من طنين الأسئلة الصعبة في غرف ضمائرنا المغلقة. إن المأساة لن يخففها حزن عشوائي، وألم عشوائي، وغضب عشوائي، بل لن يخففها إلا حزن منهجي، وغضب عاقل، وألم مثمر، ولن يخففها إلا قبول أنها “أمر واقع” يجري بالفعل، وعلينا التعامل معه، وهذا يعني التوقف عن النحيب كالأطفال، والتفكير باستثمار هذا الألم الذي هنا بشكل يغير واقع من هم هناك.

خلاصنا الشّخصيّ:

إن وجودنا هنا ليس ذنبا يجب أن نحاول التكفير عنه، أو الدخول لأجله في سباق للحزن مع الآخرين، بل لعله منحة نستطيع من خلالها أن نقدم لهم ما لم نكن لنستطيع تقديمه لو كنا بينهم.

إنّ كلّ غضبنا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ لا قيمة له إذا لم يثمر يدًا تشدّ عضد تائه في الفيافي ينتظر خيمةً تؤويه أكثر من قصائد الهجاء. وإنَّ حرارة مشاعرنا العالية لا وزن لها إن لم تُنضِج رغيف خبزٍ يأكله أطفالٌ يمنعهم البرد والجوع من غمض جفونِهم.

ما أحوجنا إلى البحث عن خلاصنا الشّخصيّ، عبر ما يملكه الواحد منّا، ولو كان شقّ تمرةٍ، نتوارى بها من أعين الشّهداء، الذين يسألوننا كيفَ تركتم أطفالنا للبرد والجوع وذلّ السّؤال، وأنتم تنامون ملء حفونكم شبعانين آمنين؟!

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه