هل انتهت قمة كوالالمبور المصغرة؟!

على الرغم من أن هذه القمّة ليست المحاولة الأولى من قبل مهاتير، إلا أنها الأكثر وضوحاً وتركيزاً في أهدافها ومنطلقاتها، وقد يكون تأخر هذه المبادرة عائدا لعدة أسباب

 

قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الوقوف على شيء من التاريخ الذي سبق هذه القمة. فمن الملاحظ أنه لم يغب مصطلح “العصر الذهبي الإسلامي” عن الكلمات الرئيسية لرؤساء وقادة وممثلي الدول المشاركة فيها، ولم يغب هذا المصطلح كذلك عن الأنشطة وجلسات الحوار التابعة لهذه القمة؛ فالمعرض التقني والتكنولوجي حوى عروضاً مرئية حاكت الكثير من الإنجازات العلمية التي حققها المسلمون عبر التاريخ، وفي الحوارات العلمية أيضاً؛ كرر الكثير من المتحدثين والباحثين ذكر ذلك العصر، وأين كانت الأمة حينها، وما آلت إليه الآن.

الرسالة الرئيسية التي تبناها رئيس وزراء ماليزيا ورئيس المؤتمر الدكتور مهاتير محمد، والتي أراد إيصالها من خلال تكرار طرحها في أكثر من كلمة ألقاها هي: أنه لن يسترجع العالم الإسلامي مكانته وقوّته، ولن يعود ذلك الزمن المشرق إلا إذا تخلّصت الدول العربية والإسلامية من التبعيّة والهيمنة الغربية، وهذا لن يتم إلا بالاستقلال التام.

مشروع الدينار الذهبي الإسلامي

على الرغم أن هذه القمّة ليست المحاولة الأولى من قبل مهاتير، إلا أنها الأكثر وضوحاً وتركيزاً في أهدافها ومنطلقاتها، وقد يكون تأخر هذه المبادرة عائدا لعدة أسباب. فقد سبق وأن اقترحت ماليزيا؛ حلولاً سياسية واقتصادية عن طريق تحالفات إسلامية مختلفة، يرتجى منها أن توحّد صف الدول الإسلامية في وجه الهيمنة الغربية، من أمثلة ذلك مشروع الدينار الذهبي الإسلامي الذي تبنّته حكومة مهاتير في عام 1997م، وتم التفاهم حينها مع بعض الدول العربية والإسلامية على اعتماد هذا النظام المالي الجديد، واسخدام الدينار الذهبي في التعاملات التجارية كبديلٍ عن الدولار الأمريكي، إلا أن هذا الحل لم يجد طريقه للتنفيذ الكامل، فيرى البعض أن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بجنوب شرق آسيا في ذلك الوقت حالت دون تنفيذه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم المضي قدماً في هذا المشروع ربما عائد إلى ما تبع هذه الأزمة الاقتصادية من تأزمٍ في العلاقة بين مهاتير ونائبه حينها أنور إبراهيم، فهذا الخلاف استمر لسنوات طويلة، ولم ينته إلا بتشكيل “تحالف الأمل” عام 2017م، التحالف الذي جمع خصوم السياسة بالأمس، تحت هدف واحد، وهو إسقاط حكومة نجيب عبد الرزاق، وهو التحالف الذي يرجع إليه الفضل في عودة مهاتير إلى رئاسة الوزراء مجدداً.

وثمة عامل ثالث، وهو توجهات الحكومة الماليزية خلال فترة حكم مهاتير لرئاسة الوزراء في الفترة ما بين عام 1981م و 2003م. حيث كانت الحكومة في ذلك الوقت تتبنى نظرية “سياسة النظر شرقاً”، أي أن تتركز السياسة الخارجية لماليزيا على تقوية العلاقات السياسية والاقتصادية مع بقية دول شرق آسيا، وخصوصاً اليابان وكوريا الجنوبية، وها نحن نرى توجه الحكومة الماليزية اليوم إلى العالم الإسلامي بدءاً من تركيا وباكستان.

القمة الخامسة

ربما فات الكثير من متابعي هذه القمة؛ حقيقة أنها قمة تعقد كل سنة على مدار السنوات الماضية، فقد بدأت عام 2014م، واستمرت على مدار أربعة أعوام، لكنها كانت على مستوى المفكرين والباحثين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ويعود الفضل في انطلاقها إلى مؤسسات عدة، منها على سبيل المثال: مؤسسة الصداقة الماليزية التركية MTF، وجمعية الاتحاد الإسلامي الماليزي ISMA. إلا أنه يعود الفضل لمهاتير في تبنيها ونقلها إلى مستوى الحكومات والممثلين الرسميين للدول الإسلامية.

لقد أدرك الرجل التسعيني ذو الباع الطويل في السياسة والحكم، ومن خلال تجربته السياسية، وعدم تمكنه من الرجوع إلى رئاسة الوزراء دون التحالف مع خصومه السابقين؛ أدرك أنه لا بد من أن يتعالى أصحاب السلطة في العالم الإسلامي على خلافاتهم الجانبية، وأن يتحالفوا فيما بينهم للخروج من الهيمنة الغربية للحصول على الاستقلال التّام وإقامة الأنظمة التي تخدم أوطانها بدلا ًمن أن تكون حارساً لمصالح الغرب ورغباته، ولهذا جاءت الدعوة لهذا المؤتمر موجهة لجميع الدول العربية والإسلامية، على الرغم مما بين هذه الدول من خلافات وتأزّمات، وربما كان يأمل القائمون عليه أن يجتمع الخصوم على طاولة واحدة، لعل وعسى أن يجد الخلاف نهايته هنا.

ولكننا شاهدنا كيف أن الحضور اقتصر على رؤساء أربع دول فقط، وتمثيل دبلوماسي شبه باهت لبقية الدول الأخرى، وكان ملحوظاً غياب كلٍ من باكستان وأندونيسيا بعد تأكيد مشاركتهما على أعلى مستوى. ولعل هذا يطرح سؤالاً حول جدوى هذه القمة ومخرجاتها، ومدى قدرتها على الاستمرار في الأعوام القادمة.

حوار بيردانا

ما يمكن قوله هو أن هذه القمة قد أحرزت بعض النتائج الإيجابية على المستوى المحلي الماليزي، وعلى مستوى العالم الإسلامي. فمحلياً يمكننا القول أن مهاتير محمد قد تمكّن من فرض أجندة ومسار الحكومة التي ستخلفه، فقد سبق ووعد أنه لن يستمر بحكمه الحالي أكثر من عامين، وأنه سيتنازل عن رئاسة الوزراء لأنور إبراهيم. على الرغم من أن البعض قد يرى عدم إمكانية تحقق هذا التنازل، كما أن البعض قد لاحظ غياب أنور إبراهيم عن أهم جلسات هذا المؤتمر، بالإضافة إلى نقل بعض الصحف المحلية أخباراً تتحدث عن عدم ممانعة مهاتير من إكماله العامين المتبقيين.

وعلى كل حال، وبغض النظر عن موعد انتقال الحكم، فإن ما حظي به هذا المؤتمر محلياً من حضور رسمي على المستوى الملكي، وزخم شعبي ملحوظ؛ كل هذا من شأنه أن يجعل من الصّعوبة بمكان على أي حكومة جديدة قادمة أن تسير في الاتجاه المعاكس له، وهو اتجاه الانتماء إلى العالم الإسلامي والمحافظة على وحدته، الاتجاه الذي تفضلّه القاعدة الشعبية الأوسع، وهذا ما كان واضحاً من خلال الكلمات التي ألقاها كل من ملك ماليزيا وسلطان ولاية باهانج عبد الله رعاية الدين في الكلمة الافتتاحية، وكذلك سلطان ولاية بيراك نزرين معز الدين شاه في الكلمة الختامية، فقد أكدا على ضرورة المضي قدماً في تفعيل هذا المؤتمر، وعلى أهمية المتابعة والتأكد من تحقيق مخرجاته، وقد ظهر التأثر بكلمة السلطان نزرين بشكل ملحوظ، حتى قال بعض الحضور إنه كان من اللازم تواجده خلال جميع أيام المؤتمر.   

أما على المستوى الخارجي، فقد اعتدنا سابقاً في القمم والمؤتمرات المشابهة أن تنتهي بالتوصية بإنشاء صندوق لدعم قضية ما، وأن تتبرع الدول المشاركة بمبالغ معينة، ثم ينتهي الأمر وكأن المسألة قضية مادية بحتة. أما هذا المؤتمر فقد خرج بأمرين رئيسيين: أولهما، ترسيخ محورين واضحين انتهى إليهما حال الدول الإسلامية اليوم، وهما المحور المؤيد لصفقة القرن، والمحور المعارض لها، وهذا لا يعني بأن جميع من غاب من مؤيدي الصفقة، فعلى سبيل المثال لا نعرف لماذا لم يحضر الرئيس التونسي قيس بن سعيّد، أو لماذا لم يتم تمثيل تونس بشكل دبلوماسي رفيع، مع أنها أول دولة عربية أثمر فيها الربيع العربي عن تحقق مسار ديمقراطي حديث. فغياب بعض الدّول لا يعني اصطفافها في محور مقابل آخر، ولكن تجلّي هذين المحورين أصبح واضحاً.

وثانيهما، هو الأركان أو الركائز السبع التي تم ذكرها في البيان الختامي، وبيان أنها النقاط التي سيحرص المؤتمرون على توفيرها لشعوبهم، والتي يُؤمل من خلالها أن تتحقق أهداف هذا المؤتمر، وأكدوا على أن سيكون هناك آلية للمتابعة، هذه الركائز هي: السلام والأمن والدفاع، العدالة والحرية، الثقافة والهوية، النزاهة والحكم الرشيد، التنمية والسيادة، التكنولوجيا والحكومة الإلكترونية، التجارة والاستثمار.

تحقيق هذه الركائز مرهون بجدية القوم في ذلك، وبمدى حرصهم على إيجاد آليات فعّالة لمتابعة الأمر وتأكيده. فالسّياسة لعبة متقلّبة، ووعد اليوم قد يجلوه الغد، لكن وجود حكومات دول لعبت دوراً أساسياً في هذا المؤتمر كتركيا وماليزيا وقطر، وهي حكومات أحرزت شوطاً متقدّماً في النهضة ببلادها، والوقوف إلى جانب مصالح الشعوب، بالإضافة إلى كونها دولا تسير بخطط استراتيجية مدروسة، وبرامج مؤسساتية؛ فوجودها يعطي بريق أملٍ في أن هذا المؤتمر لن ينتهي بعام 2019م، وأنه سيكون لهذا العام ما بعده.

وإن كان عدد الدول المشاركة ما يزال قليلاً، إلا أن الباب ما يزال مفتوحاً في الأعوام القادمة للجميع، فلم يصدر في جلسات هذه القمة أي لغة عداوة أو استعداء للمتغيبين، بل هي لغة حوار وتفاهم، ولعل هذا هو سبب تغيير اسم المؤتمر إلى “حِوار بيردانا”، وبيردانا كلمة ماليزية تعني “أولاً”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه