العراق.. مرحلة إنتاج وحصاد الأزمات

الأحزاب السياسية العراقية بدت اليوم باحثة عن بوصلة إنقاذ نفسها. وقد تعرت تماما أمام جملة من الإخفاقات ورثت العراق فقرا

ينطوي المشهد العراقي على الكثير من الأزمات التي تتوالد مع مرور الأيام. ذلك الأمر الذي يعد النتيجة الطبيعية لشكل نظام هجين تم تركيبه لإدارة الحالة السياسية العراقية منذ أن ترك الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣م آثاره المستعصية على الحل، وفق القواعد والقوانين المحددة لطبيعة النظم السياسية الحاكمة والمتعارف عليها عالميا.

الشارع العراقي بانتفاضته التي بدأت مع مطلع أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٩ من قلب ساحة التحرير ببغداد مع تسع محافظات من الوسط والجنوب. يضع أجندة وترتيبا الأوليات كأمر واقع ومفروض. بعد أكثر من ٥٠٠ قتيل من المتظاهرين وأكثر من ٢٠ ألف جريح كانت كافية لإسقاط رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. ليبقى الحديث مفتوحا عن حجم هذا الهدف لذاته ولنتائجه والى إين ستفضي هذه الخطوة مع سقف المطالب الشعبية المعلنة والمتضمنة:

– تغيير العملية السياسية

– تشريع قانون جديد للانتخابات

– تشكيل حكومة جديدة

تلك المطالب التي ارتفع سقفها بعد أن عجزت الحكومة العراقية عن تلبية المطالب الأولى التي أعلنها المتظاهرون في بداية الحراك. والتي كانت تنطوي على مطالبات بالوظائف وتحسين الخدمات ومحاربة الفساد.

عوامل إنتاج وتحريك الحدث

عندما يختلط الفهم والتوصيف لدعائم أي نظام حكم ومقوماته الأساسية يصبح إنتاج مثل الحالة العراقية أمرا متوقعا وإن طال الزمان على الاعتراف بجملة الأخطاء والإخفاقات المذهلة التي أسست الى حالة التداعي والانهيار والتفكيك المتوقع بعد ست حكومات سبقت، تناوبت عليها جملة أحزاب لم تختلف إلا في مسميات بعضها مع الحفاظ على عقائدها ومرجعياتها الفكرية التي لم تسلم من حالة الخلط والتشويش في طبيعة عملها السياسي المختلط بالفساد ما يجعل القارئ لطبيعة هذه الأحزاب بجملتها، ينفي عنها صفة الحزب بمفهومه السياسي، لأنها فشلت في خلق كادر حزبي مثقف بأيديولوجية عصرية تفهم فقه إدارة الدول وممارسة الحياة الحزبية السياسية حيث من المفترض أن تكون الأحزاب السياسية عماد أي عملية ديمقراطية .

الأحزاب السياسية العراقية بدت اليوم باحثة عن بوصلة إنقاذ نفسها. وقد تعرت تماما أمام جملة الإخفاقات التي أورثت العراق فقرا وفسادا وضعفا ومسيلا من الدماء والألم والتفكك. أحزاب لم تتكلف بمراجعة أخطائها وأدائها مع حجم فشلها لخمس دورات انتخابية على مدار 16 عامًا بعيدا عن التوصيف للأيديولوجيات الحزبية ومرجعياتها الفكرية الدائرة بين وصفها إسلامية أو قومية أو ليبرالية. وهنا تكمن المشكلة بين إطلاق الاسم والوصف دون فهم التوظيف السياسي والعمل الحكومي. لذلك يأتي السؤال المهم الذي تعجز المنظومة الحزبية الحاكمة عن تفسيره والرد عليه!!

– ما هو الجديد الذي سيقدمه رئيس الوزراء البديل لعادل عبد المهدي إذا ما جاء من الطبقة السياسية الحاكمة نفسها التي أغرقت العراق وأوصلت شعبه الى ميادين الاعتصام بمواجهة القتل والتشريد والتنكيل بكل آلامها مصرا على التغيير؟

– ماذا سيتغير إذا بقي النموذج الحكومي نفسه في إدارة سياسة الدولة من ناحية الاقتصاد والأمن وحقوق الإنسان والخدمات وجملة حاجات ومتطلبات الحياة الكريمة؟

– هل فكرت الطبقة السياسية الحاكمة بأحزابها في الرد على تساؤل الناخب العراقي عن حقه في تتبع صوته الذي أدلى به ولماذا تم بيعه والمساومة عليه في البازارات السياسية والصفقات البرلمانية والحكومية المشبوهة؟

الخيارات الدورية الخانقة وفرص النفاذ

مرة أخرى يعود الحديث عن الكتلة البرلمانية الأكبر لترشيح رئيس للوزراء يخلف عادل عبد المهدي الذي القى بالكرة في ملعب البرلمان بناء على طلب المرجعية كما ورد في استقالته ضاربا عرض الحائط باللياقة السياسية التي كان يفترض أن يمتثل إليها ويقول إنه غادر منصبه احتراما لرغبة الشعب. ولكن حسنا عمل لكي يساعد على إثبات نزاع طويل حول من يحكم العراق؟

ماكينة تدوير الوجوه السياسية تعمل بقوة للخروج من مأزقها الخانق بما يذكر بانتخابات عام ٢٠١٠ التي فازت بها القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي والذي أبعد عن تشكيل الحكومة بتسويق مصطلح الكتلة الأكبر التي تتشكل داخل البرلمان بعد الانتخابات. وجاء قرار الإبعاد بموجب قرار المحكمة الدستورية الذي أفضى لتجديد ثان لنوري المالكي.

الأمر بما يشبهه اليوم بعد استقالة عادل عبد المهدي التي قدمها لمجلس النواب العراقي. وبموجب الدستور يتوجب خلال خمسة عشر يوما يطلب فيها رئيس الجمهورية من مجلس النواب تسمية رئيس للوزراء وقد تم ذلك من خلال طلب الرئيس برهم صالح من البرلمان تحديد مرشح الكتلة الأكبر وهو ما يشير إليه الدستور أو قرار المحكمة الدستورية ليدخل المشهد السياسي العراقي في دوامة جديدة بين فكرة الأكبر في الانتخابات أم في البرلمان؟

الإشكالية هنا أن تحديد الكتلة الأكبر فيها أمران:

١- ما ذهب إليه تفسير وحكم المحكمة الاتحادية كسابقة لما حصل مع القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي التي فازت بانتخابات ٢٠١٠ وحرمت من تشكيل الحكومة لصالح الكتلة الأكبر المشّكلة من ائتلافات داخل البرلمان.

٢- قانون الأحزاب الذي يتعارض مع تفسير وحكم المحكمة الدستورية والذي يعتمد تواقيع أعضاء مجلس النواب وهذه التواقيع هي التي تحدد الكتلة الأكبر.

أذن حرج قانوني يدخل البرلمان العراقي في أزمة خانقة أمام القرب من انتهاء المدة الدستورية المتطلبة لتسمية البرلمان لرئيس وزراء خلفا لعادل عبد المهدي المستقيل. وهناك شبه إجماع سياسي وبرلماني على عدم القدرة على ترشيح رئيس للوزراء في ظل التشرذم السياسي وتعارض الأحكام القانونية والدستورية فيما بينها مع ضياع البوصلة في تحديد خارطة الطريق والوصول الى حل

مرحلة التصادم والاستدعاء القهري

قاعدة التغيير واحتواء الأزمة العراقية ستواجه إشكالات كبيرة حيث يضيق الفضاء ويشتد الخناق الشعبي حول عنق الطبقة السياسية والبرلمان وحكومة تصريف الأعمال. ويبقى البحث عن شخصية مستقلة لتولي منصب رئيس الوزراء ستصطدم بحائطي صد:

الأول يتمثل باختيار تلك الشخصية من قاعدة محاصصة حاكمة وقائمة على فكرة التوافق الذي لن يحصل ضمن أزمة عدم الثقة بين الأحزاب السياسية الحاكمة، مع بعضها بعضا من جهة. ومن الجهة الأخرى حالة عدم الثقة من الشارع العراقي بالطبقة الحاكمة.

وبحسب العرف السياسي الواصل الى درجة القانون يعتبر منصب رئيس الوزراء من حصة المكون الشيعي شرط توافق الكتل السياسية السنية والكردية عليه. وهذا أمر بحد ذاته يعتبر إشكالية يصعب معها اتخاذ القرار مع وجود شارع منتفض يغلي وينتظر النتائج التي تقابل جهده ودمه المراق من قبل ميليشيات وفرق موت عجزت الحكومة العراقية عن تحديدها ومواجهتها. فيما يرى كثير من المتظاهرين السلميين العراقيين أن الحكومة العراقية ومؤسستها العسكرية طرفان في أعمال القتل ضد المتظاهرين المدنيين العزل حتى وإن كان التبرير بعدم القدرة على المعرفة.

هناك من يرى أيضا أن الأزمة السياسية في العراق قابلة للتمدد كثيرا إذ لا يمكن في ظل هذه الظروف السياسية والميدانية شديدة الصعوبة، الحديث والاعتماد على خارطة واضحة للتوجهات السياسية والتحالفات فيما بين الكتل المنتظر منها تسمية رئيس للوزراء. فقد اختلطت فكرة الموالاة بالمعارضة بالمصالح بالهروب من المشهد السياسي وركوب موجة المظاهرات كما حصل لأكبر قائمة انتخابية ممثلة برئيسها مقتدى الصدر الذي يمتلك جزءا مهما من الشارع العراقي والذي امتاز بلعب دور المعارض والحاكم واستغلال الحدث وهو اليوم خارج وصف الكتلة الأكبر المعنية بتشكيل الحكومة إذ لم يتقدم بهذا الطلب في الجلسة الأولى للبرلمان وبهذا جاء جواب البرلمان الى رئيس الجمهورية عند طلبه تسمية الكتلة الأكبر لتسمية رئيس الوزراء.

قراءة أخيرة توضح أن الجميع سيدفع باتجاه حكومة مؤقتة تعد لانتخابات مقبلة وينتهي معها مجلس النواب الحالي. وهذا الخيار بحد ذاته يفتح الباب لفترة زمنية تستغرقها الإجراءات الإدارية وتحديد الدوائر الانتخابية واختيار نظامها في ظل وضع اقتصادي وسياسي وأمني معقد يتجاذبه العبث والجدال وفرض الأجندات الإقليمية والعالمية. لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الأحزاب التي تمرست على لعبة تدوير نفسها تحت ظروف مختلفة ستكون بعيدة عن قواعد اللعبة حتى وإن تطلب الأمر استدعاء الخارج مرة أخرى وإعطاء الكثير من التنازلات فالذاكرة العراقية ما زالت لم تغادر مشاهد ليلة الحسم في ثلاثة انتخابات مضت عندما تحط طائرة وزير الخارجية الأمريكية ليلا ليصبح الصباح على رئيس وزراء جديد.

هذا هو التحدي الأكبر للشارع العراقي، بين أن يكون الرقم الأصعب ليقدم نفسه ممتلكا لإرادة التغيير التي استحقها بجهده وعرقه وسلميته ودمه؟ … أو أن يتم الالتفاف عليه مرة أخرى؟

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه