فقه المرأة المسلمة في الغرب، إسلام نسوي أم إسلام ألماني؟

 

سواء فيما يخص شكل حجاب المرأة، أو العلاقة بين الجنسين، أو السفر في رحلة مدرسية، أو المشاركة في دروس السباحة، أو الابتعاث لدولة أخرى، أو حتى مصافحة المرأة للرجل، فإن كل هذه القضايا لا يتم التعامل معها فقهياً انطلاقاً من واقع المسلمين في الغرب، بل يستورد فيها في الغالب فقه المجتمعات المسلمة، الأمر الذي قد يتسبب بإخلال بالمقاصد الشرعية.

أصافح، لا أصافح:

إن قضية ذات حجم فقهي صغير في جسد التشريع الإسلامي، كقضية مصافحة النساء للرجال مثلا، تتسبب باستمرار بإثارة عواصف لا تنتهي في الإعلام الغربي، وتطلع علينا كل فترة واقعة جديدة تجدد هذه العواصف، وتحشر النساء المسلمات في زاوية التبرير.

و في حين أن هناك متسعا فقهيا للتعامل مع هذا الأمر بليونة أكبر، حيث أفتى قامة فقهية كبيرة كالعلامة القرضاوي بجواز مصافحة النساء للرجال عند الاضطرار، لا تزال بعض المرجعيات الفقهية تشدد على حرمة المصافحة، دون أن تنتبه إلى أن فتوى كهذه تتسبب للنساء المسلمات بفتنة كبيرة في دينهن، سواء كن طالبات في الثانوية يرفضن مصافحة أساتذتهن، أو موظفات منخرطات في العمل، أو ناشطات يشاركن في الحياة المدنية والسياسية، خاصة وأن مثل هذه الفتاوى لا يتم التشديد عليها بالنسبة للرجل المسلم، الأمر الذي يجعلها موضع تساؤل، ويشكك في منطلقات الالتزام بها.

وحين سُئل الأمين العام لمجلس الإفتاء بجامع الأزهر عن حكم تغطية وجه المرأة في الإسلام في ألمانيا، كانت العبارة الأولى في إجابته: “أنا أحترم خصوصية الوضع الألماني بالنسبة لهذا الموضوع”

وهذا ما يجب أن يحصل في كل الفتاوى المتعلقة بالمرأة في الغرب، فخصوصية هذه المجتمعات تتطلب تعاملا فقهيا خاصا في ضوء مقاصد الشريعة، وضمن ما تسمح به مرونتها، فكثيرا ما تطفو قضايا تتحدث عن مسلمات يرفضن خلع النقاب في محكمة، أو عند امتحان القيادة، أو في بهو بنك، ويرفعن قضايا في المحاكم، ليتبع ذلك طرح مسألة النقاب للنقاش في المجتمعات الغربية، وعلى طاولة مشرعيها، وليسفر الأمر عن قوانين كنا لنكون بغنى عن استصدارها. لذا من الضروري استغلال مرونة التشريع في ثني النساء المسلمات عن النقاب في المجتمعات الغربية، لأن ذلك يفتح باب التدخل بشؤونهن، وقد يكون بداية لتشريعات تحظر الحجاب، كما حصل في فرنسا والنمسا.

دور الفقه في تشكيل نخب نسائية إسلامية:

وتنطبق هذه الأمثلة على كثير من نواحي حياة المرأة المسلمة في الغرب، وتجد المسلمات أن أمامهن عددا كبيرا من العوائق المجتمعية والثقافية والفقهية أيضا، والتي تكبل حركتهن، وتجرم هفواتهن، وتضيق عليهن في كل باب، ثم نجد من يشتكي بعد ذلك من ندرة المسلمات الملتزمات في المجتمعات الغربية، القادرات على تمثيل قضاياهن في المحافل والمنابر والفعاليات المدنية والإعلام، فتبرز عوضا عنهن “مسلمات” ذوات إسلام منزوع الدسم، يُصدرن لهذه المجتمعات الغربية آراءهن الخاصة على أنها الإسلام نفسه، والتي تكون غالبا حربة في ظهور أخواتهن الملتزمات.

لقد آن للمجتمعات المسلمة، ومن خلفها الفقه بكل ثقله، لأن يدعموا النساء المسلمات في الغرب، ليدخلن مجال السياسية والحياة العامة والإعلام وغيرها، فيمثلن المرأة المسلمة في المجتمعات الغربية، ويستفدن من أنظمتها الديمقراطية في تمرير مطالباتهن في البرلمانات والجمعيات وعلى الشاشات.

 وإذا أردنا خلق هذه النماذج النسائية، القادرة على تمثيل الإسلام في المجتمع الغربي، فعلينا أن نسمح للنساء بمساحة حركة واسعة، يستطعن فيها تحصيل العلوم حيث يتاح تحصيلها، ويستطعن فيها بناء شبكة من العلاقات مع المجتمع رجالا ونساء، ويستطعن إيجاد مناخ أسري وزوجي يدعم طموحاتهن، بعيدا عن الكم الكبير من المسلَّمات الاجتماعية، المدعومة بالفتاوى الفقهية، والتي تضيق على المرأة، وتثقل كاهلها بواجبات تؤثر على قدرتها على التحصيل العلمي والنجاح العملي.

“الإسلام النسوي” قادم:

وإن تعثُّر الفقه عن مجاراة التحديات التي تواجه المسلمات في الغرب، أفرز عدة محاولات نسوية لإعادة إنتاج نسخة نسوية من الإسلام، فالمركز الإسلامي لبحوث المرأة في كولونيا ZIF مثلا، قدم محاولاتٍ أكاديمية لإعادة تفسير آيات القرآن التي تخص المرأة وفق وجهة نظر نسوية، منشورة في الكتاب الذي أصدره المركز “كلمة وحيدة وتأثير كبير” Ein einziges Wort und seine grosse Wirkung، مع ما يترتب على ذلك من تبعات فقهية تتخذ من هذه التفسيرات مرجعية جديدة لها. وعند سؤال لويزا بيكر اختصاصية التربية الإسلامية بمركز بحوث المرأة المسلمة عن الفئة المستهدفة من هذا الكتاب، أجابت بأنهن “بالدرجة الأولى النساء ذوات الخلفية المهاجرة، اللواتي يردن أن يوفقن بين التمسك بإيمانهن، وحياتهن في مجتمعات علمانية”.

ومقابل محاولة المركز الإسلامي لبحوث المرأة التعاملَ مع قضايا فقهية نسوية بأدوات أكاديمية، تراعي إلى حد ما أصول البحث الشرعي، هناك محاولات لا يمكن أن توصف إلا بأنها وجهة نظر شخصية لمعالجة ذات القضايا لدى عدد من الكاتبات المسلمات، مثل الكاتبة لمياء قدور، خريجة كلية الدراسات الإسلامية، ومدرسة مادة الدين الإسلامي في المدارس الألمانية، والتي أفتت بعدم فرضية الحجاب بناء على قراءتها الشخصية لآيات الحجاب وسياقها التاريخي، أما الباحثة في الفقه الإسلامي دينا العمري فقد دعت المسلمات إلى أن يتعاملن بشكل نقدي ذاتي مع القرآن أو مع أي مصادر دينية أخرى ترد فيها لهجة ذكورية.

ترويض الإسلام أكاديميا:

ولم تُترك الساحة الشرعية الإسلامية دون تدخل الحكومية الألمانية، حيث تقوم جهات حكومية بتمويل عدد من مراكز الأبحاث الإٍسلامية ودراسات الفقه والتفسير بالملايين، بالإضافة إلى وجود ست جامعات ألمانية حكومية تضم أقساما لدراسات الفقه الإسلامي، ولتأهيل مدرسي التربية الإسلامية والفقهاء، وذلك تحقيقا لرؤية وزيرة التعليم الألمانية السابقة، التي كانت تتمنى وجود دراسات فقهية وقرآنية نقدية، تنجح في ترجمة الدين على الواقع الحياتي المعاصر للمسلمين في ألمانيا، فيما سماه أرنفريد شينك رئيس تحرير صحيفة دي تسايت “ترويض الإسلام أكاديميا” ليكون المنتَج بحسب تعبيره أيضا “إسلام صنع في ألمانيا”، حيث يُدَرَّس هذا الإسلام بالفعل في 800 مدرسة ألمانيا، وبالطبع سيكون نصيب الفقه المتعلق بالمرأة من هذا الإسلام نصيب الأسد، طالما أن المرأة المسلمة تشكل بالنسبة للغرب الملمح الأهم للإسلام.

وليس المسجد الفريد من نوعه الذي افتتح في برلين عام 2017 واحتفت به الحكومة الألمانية إلا انعكاسا عمليا لهذا الإسلام الذي يصنع الآن في ألمانيا، والذي يكون حسب مؤسستِهِ، إسلاما متلائما مع القيم الغربية الأوربية، حيث تصلي فيه النساء إلى جانب الرجال دون أن “يضطررن” إلى ارتداء الحجاب، كما يمكن أن تؤم المصلين وتخطب بهم نساء سافرات أيضا.

وهكذا نجد أن التعاطي الجدي مع فقه المرأة المسلمة في الغرب لم يعد ترفا يحتمل التأني، بل أصبح ضرورة ملحة، طالما أن هناك الكثير من الأيادي التي تتجرأ لتعبث بهذا الفقه بحسن أو سوء نية، فتزيد التشوش على المرأة المسلمة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه