الفيتو العراقي على أهواز ثانية

في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدأ الحراك الشعبي بالعراق

من المتوقع أن تكون المعركة بالعراق طويلة وقاسية، لأنها ستكون بالنسبة لطهران حربا بالاستعاضة فظاهرها هو ضد الطبقة السياسية في بغداد، لكن حقيقتها ضد الحلم القومي للسياسيين بطهران.

 قد يكون من الشجاعة بمكان أن نعترف نحن العرب أن النخبة السياسية التي استلمت دفة الحكم في إيران منذ عام 1979 قد تفوقت علينا بأمور كثيرة لعل أهمها وأخطرها نجاحهم بتطبيق ثنائية القومية والدين.
في العالم العربي، افتقرت الكيانات السياسية بشكل عام للواقعية السياسية والتي غالبا ما تسمى في القاموس السياسي “براغماتية”، حيث عمدت للالتصاق بما يمكن أن نسميه “ماركة مسجلة” تحبس نفسها في داخلها وبالتالي تعجز عن مواجهة المتغيرات التي هي سنة الكون.
إذا نظرنا لأكبر تيارين سياسيين في العالم العربي كان لهما تأثير ملموس في الشارع خلال السبعة عقود المنصرمة وهما التيار القومي والتيار الإسلامي، سنرى أن الاثنين فشلا في تحقيق أهدافهما فشلا ذريعا، لأنهما عجزا عن الخروج من الماركة المسجلة التي اتخذاها لأنفسيهما. 
فالقومي لا يكتسب هويته إلا إذا آمن بتحييد الإسلامي وتحديد النشاط الديني في حدود أسوار المساجد فقط ولن يتورع عن استخدام سلاحه ضده لو حاول تخطي الحدود المرسومة له، والإسلامي من جهته لا يحسب على الأحزاب الدينية إلا إذا آمن بطمس القومية العربية (أو غير العربية) لأنه يرى أن الإسلام دين أممي عابر للأوطان، وإن أي قومي هو كافر وإن آمن.
النخبة السياسية الإيرانية استطاعت تجاوز هذه العقبة بنجاح باهر، فرغم طابعها الديني إلا أنها لم تسقط عنها الهوية القومية الفارسية، ويتصرفون في شؤونهم الخارجية على هذا الأساس وهم بهذه الطريقة استطاعوا أن يلعبوا على حبال عديدة أهمها ضمان تأييد النخب القومية الفارسية للسياسات الخارجية للنخبة السياسية الإيرانية -وإن لم تكن جزءا من الإسلام السياسي في إيران. 

 

النفس القومي للطبقة الحاكمة في إيران

ولعل من أبرز الدلائل على النفس القومي للطبقة الحاكمة في إيران، أنهم -ورغم الطابع الديني للدولة- لم يصححوا الأوضاع الخاطئة التي نتجت عن النزعة القومية لحاكم إيران السابق رضا شاه بهلوي حيث لم تحل مظالم الأكراد والعرب والبلوش في إيران إلى يومنا هذا، رغم أن هذه القوميات جميعها قوميات مسلمة وعرب الأهواز بغالبيتهم شيعة أي نفس المذهب الرسمي للنظام الإيراني. 
ففي الأهواز مثلا استمرت عملية تغيير أسماء المدن والمناطق العربية بعد ما يسمى بالثورة الإسلامية لأسماء فارسية، واستمر منع عرب الأهواز من إطلاق الأسماء العربية على مواليدهم باستثناء أسماء معينة لها مدلولات دينية مثل علي وحسين وفاطمة، كما واستمر تهميش عرب الأهواز سياسيا واجتماعيا واقتصاديا رغم أن إقليمهم يحتوي على 80% من نفط إيران.  

 

إيران تستنسخ تجربة الأهواز في العراق

أما في العراق، فما حدث من انفجار شريحة واسعة من الشعب العراقي ونزوله إلى الشارع في ثورة شعبية عارمة في اليوم الأول من الشهر الجاري (أكتوبر/تشرين الأول 2019)، فهو في جزء كبير منه نتيجة لمحاولة الطبقة السياسية في إيران استنساخ تجربة الأهواز في العراق.
منذ اليوم الأول للاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، دفعت الدوائر السياسية في إيران بكل العناصر والأحزاب السياسية الموالية لها إلى الواجهة ولم تبد الولايات المتحدة التي كان جيشها يسيطر عسكريا على العراق أي ممانعة لهذا المد، كما لم تبد أي اعتراض على توليهم الحكم بعد ذلك. 
وحتى الأمس القريب، كانت النخبة السياسية في طهران قد ارتاحت وحسبت أنها صارت تملك أهوازين، ولكن الخطأ الذي وقعت فيه هو وثوقها بنخب بغداد السياسية التي أتت بعد عام 2003 والتي بحكم نقص الخبرة لم تعترض وفشلت في توعية طهران بخطأ تكرار سيناريو الأهواز وتسقيطه على العراق، خاصة في ظل حقيقة وجود دولة عراقية معترف بها دوليا وليست كالأهواز التي سقط حكم أهلها العرب فيها عام 1925 عندما احتلها رضا بهلوي عسكريا وضمها لإيران. 

 

الاستراتيجية المطبقة في العراق

اعتمدت الاستراتيجية التي طبقت في العراق والتي نتجت عن تفاهم غير مكتوب بين القوى الإقليمية والدولية على ثلاثة محاور: 
الأول: يجب أن يبقى العراق أعرج لا يستطيع المشي لوحده عسكريا وصناعيا وزراعيا وتجاريا، عن طريق إشاعة الفساد واستنزاف موارده. 
الثاني: نسف العملية التربوية فيه لخلق جيل غير متعلم تسهل السيطرة عليه، وبحسب اليونيسيف خصص العراق عام 2016 “6% من ميزانيته الوطنية لقطاع التعليم مما يضعه في أسفل الترتيب بين بلدان الشرق الأوسط”. 
الثالث: عزل العراق عن محيطه لتسهل السيطرة عليه، عن طريق المغالاة في إبراز انتمائه لمذهب معين لخلق جدار عازل بينه وبين عمقه الاستراتيجي العربي والإسلامي.
 وبشكل عام، طبقت كل المجموعات السياسية التي تولت مقاليد الحكم في العراق منذ عام 2003 إلى اليوم الخطة الموضوعة بشكل تام، وظنت الطبقة السياسية في طهران أن العراق سيكون أهوازا ثانية: دجاجة تبيض ذهبا ولا تتطلب سوى القليل من الطعام لكي تبقى على قيد الحياة وتستمر بوضع البيض. 
إلا أن الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019 أثبت أن هناك عيوبا في تلك الخطة وأن هناك اختلافات جوهرية بين وضع الأهواز والعراق، فبينما الأهوازيون يمثلون حوالي 2% فقط من سكان إيران، فإن العراقيين هم 100% من الشعب. 
الاختلاف الثاني، قدرة الطبقة السياسية في طهران على التعتيم على أي نشاط معاد لها في الأهواز، وعجزها عن ذلك في العراق رغم قيام المتحكمين بالأمور في بغداد بقطع الإنترنت كلما سنحت لهم الفرصة منذ اندلاع ما بات يعرف بين العراقيين “ثورة تشرين”. 
الاختلاف الثالث والأهم، وجود دعم شعبي في المنطقة للمطالب الشعبية العراقية نظرا لقصر الفترة الزمنية التي مرت على تغيير وجه العراق التاريخي والذي لا يزال حيا في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية والإسلامية، بينما في الأهواز الأمر يختلف فالإقليم يرزح تحت سيطرة طهران منذ 94 سنة استطاع حكام إيران خلالها وبنجاح مسح هوية الأهواز العربية المسلمة من الذاكرة الجمعية للعرب والمسلمين، حيث يثور الأهوازيون ويقمعون ويقتلون بدون أن يسمع عنهم أحد لأن قضيتهم لا تعتبر أولوية إخبارية في وسائل الإعلام العربي.
ولذلك، فإن المعركة الحقيقية في العراق هي مع النخبة السياسية الإيرانية التي من المتوقع أن تعتبر الاحتجاجات في العراق موجهة ضد سطوتها على المشهد السياسي العراقي، والذي تجسد باعتراف رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي في مقابلة مع قناة دجلة العراقية في شهر مارس/آذار الماضي بأن قاسم سليماني زاره وطلب منه صراحة الانضمام للتحالف الذي تباركه طهران. 
إن الأيام الأخيرة والإجراءات التي تتبعها السلطات في العراق تظهر بما لا يدع مجالا للشك أن التكتيكات المستخدمة ضد المحتجين تنبع من نفس المصدر الذي يقود إجراءات قمع انتفاضات الأهوازيين المستمرة منذ سنين، والتي تقوم على مبدأ التصفية الجسدية لأكبر عدد من المحتجين بهدف بث الرعب في القلوب وكبح جماح المد الشعبي الغاضب. 

ومن المتوقع أن تكون المعركة في العراق طويلة وقاسية، لأنها ستكون بالنسبة لطهران حربا بالاستعاضة فظاهرها هو ضد الطبقة السياسية التي تتحكم بمقاليد الأمور في بغداد، ولكن حقيقتها معركة ضد الحلم القومي للطبقة السياسية في طهران بالسيطرة على شريان المنطقة النفطي وخزينه البشري الأكبر، وليس أمام العراقيين: إما الانتصار واسترجاع العراق، وإما الهزيمة وجعل العراق أهوازا ثانية.      
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه