الحواضن الحضارية محراب الكرد الوجودي

 

بعد “نبع السلام” بدا واضحاً لدى العقلاء أنّ الحديث عن الحل السياسي بمعزلٍ عن الحل العسكري المنظّم مضيعةٌ للوقت واستخفافٌ بالعقل واستنزافٌ للقتل واستنباتٌ للإرهاب والشقاق الاجتماعي بين مكونات البيئة السورية بطريقة تصبّ في صالح المحتل والحاكم السياسي، ولا شكّ أنّ جنيف وأستانة بكل فصولها ومشاهدها دليل على ذلك، فأدبيات الواقع الدولي والقانوني الحاكم يؤكد بسلوكه أنّ كلّ الاتفاقيات السياسية لا تعدو كونها تثبيت لواقع ولإرادة القوى العسكرية، وعليه فإنّ مشكلة الحراك السوري الأساسية هي بالتصادم مع إرادة العسكرة الدولية المُصادرِة لوجوده وخياره، وانطلاقاً من ذلك لا يمكن أن يكون الحل سياسي في ظل التعامل مع ثورات الشعوب، لأنّ العلاقة بين الطرفين علاقة وجود أو عدم، وهذا ما تدركه السياسة المحلية والدولية منذ البداية، لذلك نرى أنّ كليهما _التابع المحلي والمتبوع الدولي السياسي والعسكري_ سلكا مسلك القتل والتهجير والاعتقال كخيار أوحد في معالجة أزمة الحراك السوري، في حين أنّها ألهت المعارضة المصطفاة دولياً بالحديث عن السراب السياسي وكذبة الحل السياسي التي لاوجود لها أصلاً في منطق الثورات. بالمقابل لا يفُهم من الكلام أعلاه أنّ المطلوب هو تسليح الحاضنة الاجتماعية والمدنية للحراك الشعبي فهذا الأمر خطير للغاية بل ويصب في صالح المستبد في حال الثورات الشعبية، لأنّ هذا التحرّك المسلح لا يغني ولا يسمن من جوع بل يشرّع قتل الحاضنة ويحولها لسوق سوداء لتصريف السلاح لا غير، لذا فإن تسليح المدنيين السوريين دولياً لم يكن عبثياً ويعتبر أكبر جريمة في التاريخ الحديث، فكان على القوى الدولية إن كانت جادة في حقن دماء الشعب السوري أن تتدخل بقواتها العسكرية العربية للحد من قتلهم وتهجيرهم وإسقاط المجرم، لكن ما يبدو أن المجرم ليس واحداً في المسألة السورية، فكان من الواجب منذ البداية أن يكون الحل بالتدخل العسكري المنظم المشابه لعملية نبع السلام _بغض النظر عن أهدافها الآنية_ وليس بتسليح البيئة الاجتماعية وتحويل الأعراق والأيديولوجيات العقدية لقفازات مسلحة وقنابل موقوتة تفخخ بواسطتها الواقع الاجتماعي تبعاً للمصالح الاقتصادية والسياسية.

جشع الفيتو الدولي

      ولا شك أنّ العملية العسكرية التركية المسموح لها دولياً بالتحرك أخيراً تفضح جشع “الفيتو الدولي” _الروسي والأمريكي_ الذي أثبت بالدليل القاطع أنّهما كلمتا السرّ في المسألة السورية وأنّهما المعرقل لعجلة الحراك والمسؤول عن صناعة الأنظمة الشعبوية العقائدية المسلحة الوظيفية والتي استخدمتها أنظمة الإجرام الأنيق بالتعاون مع النظام السوري كقفازات سياسية مارست بواسطتها أكبر جريمة إبادة جماعية ؤحضارية في التاريخ الحديث ومن ثم رمتها في مزابله لإبعاد الشبهات وخوفاً من ظهور البصمات. فكل ما عشناه لم يكن صراعاً طائفياً ولا عرقياً بل سياسياً يستخدم القفازات الشعبية والأيديولوجية لتكريس مصالحه الاقتصادية على حساب الإنسان. فهذا “الفيتو الدولي” كان الحري به لو كان لا علاقة له بالجريمة أن يخرس أثناء محاولة بعض الشرفاء الدوليين _وهم قلة نادرة_ إيقاف آلة إجرام النظام السوري بدل أن يُرفع فقط من أجل حماية الطرق الدولية والتجارية ومراكز الغاز والنفط وتقاسم الإرث السوري. لذا فأي تدخل عسكري ليس لصالح إنقاذ الشعوب تسميته الأكثر دقة هو: “نبع المصالح” لا “نبع السلام”!. وجلياً يتضح ذلك إذا ما تحققنا في “سياق وتوقيت ومكان” الموقف العسكري والسياسي المتخذ، فلا شكّ أنّ هذا الثالوث جزء لا يتجزأ من ذات المواقف السياسية والعسكرية على المدى الاستراتيجي، وعليه فإنّ قراءة الموقف خارج نطاق بيئته المحيطة، يودي بنا لنتائج وتقديرات لا تعكس واقع الموقف الحقيقي.

   لذا فالحملة العسكرية التركية المباركة دولياً لحدّ ما لو جرت وأمثالها بأذرع عربية ومجاورة على سبيل المثال منذ بدايات اشتعال شبَق الحراك السوري لغيّرت مساره إيجابياً رأساً على عقب ولقلَبت الطاولة على النظام السوري واضعةً حداً صارماً للقتل والتهجير والاعتقال والإبادة الجماعية حينها فقط كان يصح أن يُطلق على هذه العملية العسكرية وغيرها “نبع السلام”. إلّا أنّ السماح الدولي لتركيا بالتحرّك نحو أهدافها في الوقت والسياق والمكان المحدد أمريكياً وروسياً يفرّغ أي تحرك سياسي وعسكري ثوري وتركي من مضمونه ليجعله يصب في صالح الغير حتى ولو تلاقى مع مصالحه إلى حد ما في بعض الجوانب على المدى القصير، والغير هنا لا يقتصر على مصالح الروس والأمريكان بل في صالح النظام الذي يقتات في وجوده على تبعيته التامة والتناقضات الدولية إلى حد كبير، وعليه فإنّ اختيار توقيت العملية العسكرية التركية دولياً، حوّلها من كونها “نبع للسلام” إلى “نبع للمصالح” أو بعبارة أدق إلى معاملة أشبه بحصر الإرث السياسي بين أطراف النزاع. غير أنّ ما يجري بكل الأحوال يعتبر أخف الضررين بالمقارنة بين الخيارات المتاحة آنياً بالنسبة للأتراك والسوريين.! وما يبدو أنّه ليس بإمكان الأتراك أكثر مما كان، فبهذه العملية استطاع الأتراك إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنّه بذات الوقت فاتتهم فرصة دعم إعادة هيكلة دولة مجاورة قوية تتقاطع معهم أيديولوجياً وتاريخياً وجغرافياً، الأمر الذي كان بدوره أن يمكّن تركيا بأن تتحول لإمبراطورية شرق أوسطية لها كلمتها المسموعة في الإطار الدولي، ولا شك أنّ عدم نجاح الأتراك في دعم الحراك السوري في تحقيق ذلك سيوثر سلباً على الدور التركي في المنطقة وداخل تركيا على المستوى الاستراتيجي.

الواقع السوري

باختصار إنّ  كل ما نعيشه من فرح  اليوم بالقضاء على تنظيم “قسد” لا يعدو كونه احتفالاً ببداية عودة الواقع السوري لما كان عليه أو أسوأ وليس لما كنا نسعى إليه، فهناك التفاف واضح على إرادة الحراك الشعبي، وبعبارة أخرى إنّ الدول ذات الصلة_أمركيا روسيا_  احترفت فن صناعة المشاكل والأزمات وحلّها بعد استغلالها بالكامل، لتجعل من حل ذات المشكلة التي أشرفت على صناعتها بعد الحراك انتصاراً ثورياً وشعبياً لإشباع حاجة الجماهير في تحقيق قدر معين من الانتصار السلكوني البعيد في حقيقته عن الأهداف الحقيقية للحراك السوري الأصيل.

   النتيجة اليوم في أحسن أحوالها هي انهزام ساحق لمرتزقة تنظيم “قسد”، ولكن ذلك لن يعني بالضرورة انتصار الثورة أو الحراك السوري الذي لم يزل خارج حسابات المعادلة الدولية! فتنظيم “قسد” حقق كل غاياته والحديث عن فشله كلام هلاميّ منفصم عن الواقع، لأنّه من الأساس لم يراد لهذا التنظيم الوصول لأكثر مما كان عليه، فهو تنظيم وظيفي بامتياز لعب على الشبق العاطفي لدى الكرد وتطلعهم لتأسيس دولة بمعزل عن البيئة الجغرافية والاجتماعية المحيطة بها، فسعى التنظيم إلى إتمام مسيرة البعث الوظيفية في تكريس سلخ الكرد عن البيئة السورية والإرادة الثورية لإضعاف الحراك واستنزافه ذاتياً وتحويل الكرد إلى بعبع سياسي واجتماعي يهدد النظام السوري بواسطته الجمهورية التركية أحد أهم الحواضن الأساسية للحراك السوري في بداياته. لقد نجح تنظيم “قسد” الوظيفي ببراعة فائقة في شرخ النسيج الاجتماعي الكردي العربي والتركي الكردي، وهكذا نجح التنظيم في تقسيم سوريا وماحولها على أساس ثقافي وعرقي وأيديولوجي وأما التقسيم الحدودي فأمسى تحصيل حاصل لا أكثر، وكل ذلك لضمان القوى الدولية عدم تأسيس شراكات سياسية بين المكونات المذكورة على المدى البعيد، فالمراد للكرد باختصار أن يبقوا قنابل موقوتة وغرباء في إطار البيئة الجغرافية المحيطة، على أمل جزرة كردستان، لذا فقد تحولوا لفئة عاطلة ومعطّلة تعطّل نهوض حضارة المشرق العربي وتعيش أسرى لمخيالها الافتراضي الذي يمنعها عن عيش حاضرها وتأسيس حضارتها بالتعاون مع حواضنها الحضارية.

الكرد

   فالواقع التاريخي يثبت أنّ الكرد حضارة اجتماعية غنية وخصبة وقوية بغيرها لا بذاتها ولا تسود إلّا في البيئة ذات المناخ المثقف إسلامياً، لذلك تسعى الإرادة الدولية إلى إجهاضها عن طريق خلق هوّة كبيرة مع محيطها الاجتماعي والديني والجغرافي والثقافي إضافة لتفخيخها بحركات الارتزاق المسلّح، والتي تستغل بدورها ردة الفعل الاجتماعية المضطربة الناتجة عن الظلم الدولي الممنهج ضد البيئة الاجتماعية الكردية، ولا شك أنّ ذلك يتم بواسطة أذرعته السياسية داخل العديد من الأنظمة العربية المستبدة كالنظام السوري أنموذجاً. لكن الكرد مع الأسف لم يعوا حتى اللحظة أن حضورهم لم ولن يكن إلا في بيئة اجتماعية إسلامية متصالحة مع محيطها الجغرافي، وكذلك الأتراك والعرب إذا أرادوا صناعة حضارة حديثة فلا بدّ أن يرمموا الثغرات والتصدعات الداخلية والمحدثة مع الأكراد والمحيط الجغرافي عن طريق التشاركية الحضارية وليس الوصاية الحضارية.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه