ما وراء عملية “نبع السلام”؟!

 

أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، أن الهجوم الذي يحمل اسم عملية “نبع السلام”، في منطقة شرق الفرات شمالي سوريا، لمحاولة إقامة منطقة آمنة بعمق 32 كيلومترا، تهدف إلى ضمان أمن الحدود، ومنع إنشاء ممر إرهابي، بالإضافة إلى توفير الشروط المناسبة من أجل عودة السوريين إلى ديارهم، بالقضاء على التهديدات، التي يمثلها مقاتلو وحدات حماية الشعب الكردية السورية، عصب قوات “سوريا الديمقراطية” (قسد) ومسلحو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

 بدأت العملية العسكرية، الأربعاء 9 من تشرين الأول/أكتوبر 2019، وسط تأييد داخلي من الأحزاب السياسية التركية، ورفض فقط من حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي المعارض.

خديعة “أتاتورك”

في مطلع القرن العشرين، بدأت النخب الكردية التفكير في إقامة دولة “كردستان” المستقلة، وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وضع الحلفاء الغربيون المنتصرون تصورًا لدولة كردية، في “معاهدة سيفر” عام 1920؛ التي تعد أول اتفاقية دولية، أقرت بإقامة كيان كردي، على الرغم من هذا؛ نجح الزعيم التركي “مصطفى كمال أتاتورك” في الالتفاف، على هذه الحقوق، وتوجه إلى الأكراد في الداخل، وخاطبهم باسم الدين والتآخي والوحدة الوطنية، وعمل علي إقناعهم بتأجيل مطالبهم الملحة إلى مرحلة لاحقة، بعد التعهد بتحقيقها، لحين خروج تركيا من أوضاعها السياسية المنهارة، إلا أن هذه الآمال تحطمت بعد ثلاث سنوات، إثر توقيع معاهدة “لوزان”؛ التي رسمت الحدود الحالية لدولة تركيا، بشكل لا يسمح بوجود دولة كردية.

بعد أن نجح “أتاتورك” في إقناع المجتمعين، في مؤتمر “لوزان” بصرف النظر عن فكرة الاستقلال الكردي، وبدلا من ذلك تم إقرار الحقوق، الثقافية واللغوية للأكراد، من خلال اعتماد صيغة سياسية، مؤكدًا: أن تركيا هي للشعبين التركي والكردي، ويتمتعان فيها بحقوق قومية متساوية.

فما إن حصل “أتاتورك” على دعم الغرب له، حتى بدأ بإعلان إلغاء صيغة الدولة الإسلامية للحكم، وتنصل ليس من اتفاقية “سيفر” فقط بل حتى من ما جاء في اتفاقية “لوزان”، بخصوص الأكراد، وباقي الأقليات مثل العرب والأرمن والأشوريين، وهو ما دفع بقيادات كبيرة من الأكراد إلى إعلان الثورة، ضد “أتاتورك” في عام 1925، سرعان ما قمعها بقوة هائلة، وأعدم كبار قادتها، واستمر الصراع حتى عام 1938، ما أدي إلى مقتل، أكثر من سبعين ألف كردي علوي، وتشريد عشرات الآلاف حسب المصادر الكردية، فيما اعترفت تركيا، بمقتل 14 ألف فقط. وبعد إخماد ثورة “درسيم” 1937، بقوة أتاتورك الغاشمة، والتي كانت عملياً آخر الثورات الكردية في تركيا.

توقفت الثورات الكردية، وأصبح كل من في تركيا تركي، حسب نصوص الدستور، وازدانت مداخل المدن التركية وساحاتها، بالشعارات المعلقة: “أنا سعيد لأني تركي”، وأصبح يطلق على الأكراد، صفة “أتراك الجبال”.

“عبدالله أوجلان” الزعيم:

في العام 1973، أصدرت مجموعة صغيرة، تحت قيادة “عبد الله أوجلان”، إعلان عن الهوية الكردية في تركيا؛ والتي تطلق على نفسها اسم “توريي كردستان”، وقررت بدء حملة من أجل حقوق الأكراد، حاملة شعار تحرير وتوحيد كردستان، ومن ثم فجر كفاحه المسلح، مرة أخري، ضد الدولة التركية، فكانت المسيرة مرسومة بالدماء والدموع، أكثر من 45 ألف قتيل من الجانبين، وآلاف جرائم القتل والاغتيالات، وشرخ اجتماعي هائل بين الأكراد والأتراك، وتوتر في علاقات تركيا مع كل دول الجوار.

بعد أن تأكد للجميع استحالة حل القضية الكردية عسكرياً، كانت تلك المحاولات السلمية؛ التي بدأت من عهد الرئيس التركي “تورغوت أوزال”، الذي دفع حياته ثمنا في العام 1993، لأول محاولة سلمية لحل هذه القضية سياسياً!

نحو جمهورية ثانية:

عادت للمشهد السياسي، عملية السلام (التركي – الكردي) من سجن جزيرة “إيمرالي” بعيدا عن الدوافع والحسابات السياسية لكلا الطرفين، وتحديدا للزعيمين “أردوغان وأوجلان”، وكذلك بعيدا عن الأحداث المتسارعة، عالميًا وشرق أوسطيًا، وعلاقتها بالتطورات الجارية في الداخل التركي، وتحديدًا الأزمة السورية وتداعياتها، دفع الرئيس التركي “أردوغان” لإرسال الرجل القوي المقرب منه، رئيس الاستخبارات التركية العامة، “هاكان فيدان”، إلى “أوجلان” في السجن، وفتح مفاوضات معه، من أجل التوصل إلى اتفاق للسلام، حيث يتطلع “الزعيم أردوغان” إلى تحقيق انجاز تاريخي، ونزع سلاح حزب العمال الكردستاني”البي كا كا”، بعدما فشلت المؤسسة العسكرية، في القضاء على الحزب عسكريًا، طوال العقود الثلاثة الماضية.

 أراد “أردوغان” تحقيق هذا الإنجاز حتي يغير وجه تركيا، والتخلص من الفكر “الأتاتوركي” وبناء الجمهورية الثانية، التي عمل من أجلها سابقا، “عدنان مندريس” و”تورغوت أوزال”، ولكنهما دفعا حياتهما، ثمناً لذلك، ليس هذا فحسب، بل أراد “أردوغان”، تثبيت دعائم الدولة القوية النموذجية؛ التي يٌقتدي بها في مجالها الإقليمي، والذي وضع هذا النهج نصب عينيه، منذ توليه السلطة، وهو مسعى يصب في خانة كسب الشارع السياسي في المنطقة، على اختلاف مشاربه الفكرية: من إسلامية وقومية وليبرالية، في سياسة تركية مدروسة، هدفها ترسيخ النموذج التركي، دولة إقليمية قائدة، في رسم المسارات الإقليمية، للمنطقة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.

 وليس كما يشاع قديمًا: أن تركيا تتمني أن تتذيل الاتحاد الأوربي، على أن تترأس الشرق الاوسط!

يوليو/تموز 2015

بعد أن بدأت مفاوضات السلام مع “أوجلان” في أواخر 2012، عندما كان “أردوغان” رئيسا للوزراء، والاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة، تراجع مقاتلي حزب العمال الكردستاني”بي كا كا” إلى شمالي العراق، وتم التوصل في عام 2013، لوقف لإطلاق النار بين الطرفين.

سرعان ما انهار وقف إطلاق النار في يوليو/تموز عام 2015، بعد عملية انتحارية، اعتبر تنظيم الدولة مسؤولا عنها، وأسفرت عن مقتل 33 من النشطاء الأكراد، في مدينة “سروج” ذات الأغلبية الكردية، قرب الحدود السورية، ومنذ ذلك الحين لقي الآلاف من بينهم مئات المدنيين حتفهم، في اشتباكات في جنوب شرق تركيا، واحتفظت تركيا بوجود عسكري في سوريا منذ أغسطس/آب عام 2016؛ عندما أرسلت قواتها عبر الحدود لدعم هجوم المعارضة السورية ضد تنظيم الدولة.

صراع دامٍ

خسر الشعب التركي، خسارات باهظة، منذ اشتعال هذا الصراع الدامي؛ الذي اشتعل تحديدا في العام 1984، حيث تشير الاحصاءات، إلى  خسائر بشرية تتراوح بين 40 الف إلى 50 ألف قتيل، من عناصر الجيش التركي، إضافة إلى نحو 10 آلاف قتيل من عناصر الشرطة التركية، إضافة إلى سقوط بين 10و 15 الف قتيل من المدنيين، في حين بلغ عدد قتلى حزب العمال الكردستاني نحو 15 ألف مسلح، أما على صعيد الخسائر المادية، فقد بلغت جملة الخسائر المباشرة، في مجال البنية التحتية، نحو 200 مليار دولار أمريكي، وحسب التقديرات التقليدية المتعلقة بخسائر النزاعات؛ فإن حجم الخسائر غير المباشرة، يعادل في معظم الأحوال 3 أضعاف حجم الخسائر المباشرة.

اللعب مع الكبار

الوجود الكردي اعتمد في تواجده، على إقامة تحالفات، سواء أكانت، شرق أوسطية، في البلدان المجاورة (مثل تركيا وإيران)، أم خارجية، مع الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأوربا) لضمان استمرارية وجوده؛ الأمر الذي استغلته القوي العالمية والإقليمية، ورقة للتفاوض، بهدف تأمين نفوذها ومصالحها السياسية، والجيوسياسية، والاقتصادية.

وقلما شهدت القضية الكردية، تقاطعًا للمصالح، بين نزعتها الاستقلالية، ومطامع الدول الكبرى. انتهز الأكراد الحرب المستعرة، في سوريا والعراق، لخروج القضية الكردية مجدداً إلى الضوء، للعب دور أساسي فيها، ولكن كسابق الزمان، تحول دورها مجددًا، إلى ورقة مساومة استراتيجية لتأمين المصالح الغربية، سرعان ما تحترق، عندما يحين وقت استنفاذها.

هذا ما يعول عليه “أردوغان”، في وقت الحسم، لن تفضَّل القوى الغربية، الأكراد، كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية محدودة في المنطقة، على حساب الدولة التركية، الحليف القوي في الناتو؛ التي تجمعهما علاقات دبلوماسية، وأمنية، واقتصادية كبيرة، وسيسعى الغرب قدر إمكانه إلى تجنب زيادة التوتر مع تركيا، بل ومحاولة استرضائها، حتى مع التعاطف الغربي الكبير للأكراد في المنطقة، لكنه لن يكون كافياً للدخول في مواجهة مفتوحة مع تركيا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه