نوبل للسلام 2019 ذهبت لمن يستحقها

فاز أبي أحمد علي رئيس الوزراء الإثيوبي بجائزة نوبل للسلام 2019، الجائزة ذهبت لمن يستحقها، ووجدت ضالتها هذا العام في هذا الزعيم الشاب المبتسم دوماً.
لا شبهة مجاملة، ولا تسرع في منحها هذه المرة، كما حصل في العام 2009 عندما نالها الرئيس الأمريكي السابق أوباما، الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول في البيت الأبيض، ولم يكن تبين حتى حينه أي مشروع سلام يطرحه، أو ما هو السلام الذي حققه غير وعود عامة، ولم تكن جهوده الدبلوماسية لتعزيز التعاون بين الشعوب قد أثمرت شيئاً.
وربما بعد 6 سنوات توافرت لأوباما بعض حيثيات الفوز بالجائزة في 2015 عندما توصل للاتفاق النووي مع إيران، لكن فاز بها الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس، وهو فوز كان مستحقاً ومعبراً عن قيمة الدور الذي لعبه الرباعي في إنقاذ تونس وثورتها ومشروعها الديمقراطي من السقوط في بئر الثورة المضادة والاستبداد مرة أخرى، ومن المصادفات الجميلة أن تواصل تونس جني ثمرة الجهود الحوارية للرباعي عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية أخرى تجري هذه الأيام وتمثل عرساً بمعنى الكلمة للديمقراطية والانتخابات الحرة.
تقديرات الهيئة التي تمنح الجائزة يجانبها الصواب أحياناً، والتسييس لا يخفى عن جائزة السلام خصوصاً في بعض السنوات، وشبهات المجاملة في سنوات أخرى.
الفتاة الباكستانية ملالا يوسفزي هي أصغر من فاز بالجائزة عام 2014، ورغم مأساوية قصة الاعتداء الطالباني المتطرف عليها لمنعها من إكمال تعليمها، لكن الغرب ومنظمات المجتمع المدني والإعلام هناك استثمروا الواقعة، وضخموها ، وحولوا الفتاة إلى أيقونة في مواجهة التطرف الفكري والعنف المجتمعي خاصة المرتبط بتفسيرات وخلفيات دينية، وعندما ينتمي المتطرفون للإسلام فإن وقائع العنف تلقى اهتماماً وتسويقاً واسعين، وكل أشكال العنف مرفوضة، لكن المبالغة في توظيف هذا العنف كاشف لجانب آخر من الترويج الخبيث للإسلاموفوبيا.
والغرب الذي يتباكى على طعن ملالا يوسف، ومحاولة منعها من التعليم، والذي منحها نوبل وجوائز أخرى دولية عديدة تشوبها المجاملات، والذي يتباكى على استعباد (داعش) للفتاة العراقية ناديا مراد الحاصلة على نوبل للسلام أيضاً عام 2018، والذي حولها إلى رمز لانتهاكات التنظيم بحق الطائفة الإيزيدية، هو نفسه الذي يدعم الديكتاتوريات العسكرية والمدنية في باكستان وأفغانستان والعراق وفي عموم بلدان العالم العربي والإسلامي لفائدة مشاريعه وخططه وأهدافه الخاصة في هذا العالم، وهو غير مهتم بتقليص مساحة الاستبداد في خريطة الشرق الأوسط الكبير، ويتخاذل عن مواجهة الانتهاكات البشعة فيه، ولا يعبأ بمساندة الدعوات المخلصة لنشر الديمقراطية والحريات ودعم الحركات والتحركات الإصلاحية السياسية السلمية .
الغرب يساهم في تربية وتسمين كل أشكال الاستبداد، والثابت أن جميع علل التطرف والإرهاب والأوجاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية هي إفراز لحكم الفرد الذي يشارك العالم الحر في صنعه وتشجيعه.
والثابت أيضاً أنه عندما تنتهج البلدان طريق الحكم الديمقراطي، ويتوفر للشعوب كرامتها وحريتها في اختيار من يحكمها، فإن كل الآفات والأزمات والصراعات الداخلية تبدأ في التراجع حتى تصل إلى حدودها الدنيا، فلا فقر متسع، ولا فساد متغول، ولا مرض فتاك، ولا عدالة اجتماعية مفتقدة، ولا انغلاق سياسي مُحكم، ولا هيمنة فرد واحد على مصائر أمة بكاملها، ولا عبث في إصدار القرارات، أوتحديد أجندة المشروعات، أوترتيب أولويات التنمية، ولا قاهر للناس، ولا فيلسوف، أو حكيم، هو وحده من يفكر، إذا كان يمتلك القدرة على التفكير، وهو وحده من يخطط، إذا كان يفهم معنى التخطيط، وهو وحده من يقرر، إذا كان يدرك مخاطر القرار، إنما هو حاكم من البشر، وليس فوقهم، وهو خادم للناس جاء برغبتهم ليعمل عندهم ولهم، ثم يتركهم طوعاً، أو مضطراً استجابة لحكم الصندوق الشفاف.
هذه القيم هي تقريباً علامات طريق آبي أحمد المتوج بنوبل للسلام، ورجل السلام كما جاء في حيثيات فوزه، وتشهد عليه في ذلك سياساته داخل إثيوبيا، وتحركاته في دول الجوار، وما هو أبعد من الجوار، فقد طوى بشجاعة وعقلانية ودون عقد سياسية حرباً بين بلاده وإريتريا (1998 – 2000 ) وترتب عليها صراعاً طويلاً خلف ضحايا وخسائر كبيرة، وهو لم يتجه منذ لحظة استلامه الحكم إلى مواصلة صنع (عدو) من إريتريا يستخدمه كفزاعة لقمع الداخل وشماعة لتعليق إخفاقاته عليها إذا فشل في وعوده لشعبه، ولم يكابر ولا يعاند أو ينتظر ولا تأتيه إشارات من أسمرا حتى يترجم رغبته في التقارب وإزالة إرث الماضي إلى اتفاق سلام ومصالحة مستديمة.
كما يشهد السودان على إيمانه بالسلام والحوار كوسيلة لحل أعقد الأزمات حيث كان وسيطاً للخير في قلب الخلافات والتصعيد بين قوى الحراك الثوري وبين المجلس العسكري الانتقالي، ولأن نواياه كانت لمصلحة السودان واستقراره وهدوءه حتى يواصل سيره نحو الانتقال الديمقراطي بأمان فإن النتائج الإيجابية تحققت، وحل التفاهم محل العناد، وتوصل الطرفان إلى اتفاق سياسي شامل للحكم وهياكله خلال المرحلة الانتقالية، ولهذا كان طبيعياً ولافتاً في نفس الوقت أن يحوز آبي أحمد على تصفيق حار خلال الترحيب بوجوده ضمن الضيوف العرب والأفارقة والأجانب في حفل توقيع الاتفاق السياسي 17 من يوليو/تموز الماضي.
حاز أحمد هذا الترحاب والحميمية بمفرده متفوقاً على جميع الحضور، ولهذا دلالاته التي لا تخطئها العين من اعتراف المجتمع الثوري والسياسي السوداني بأهمية دوره في الوصول إلى هذه اللحظة التاريخية الفارقة في عمر ثورتهم وكفاحهم من أجل الديمقراطية.
لم يكن هناك حاكم عربي مؤهل للوساطة في السودان، ولا موثوق فيه للقيام بها، فهم غير ديمقراطيين، ومنحازون، وغير مرحبين من داخلهم بالثورة، ولا بفكرة التحول الديمقراطي، وهم مع هيمنة المجلس العسكري على الحكم وعدم الخروج منه، فالطيور على أشكالها تقع.
والأوضاع الداخلية في البلدان العربية تخلو من أي ملمح ديمقراطي، إنما هو الحكم بالحديد والنار، بعكس مسار أبي أحمد في إثيوبيا حيث يطلق أكبر عملية إصلاح في تاريخ البلد، وربما في تاريخ أفريقيا جنوب الصحراء كلها بعد إصلاحات نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا عقب زوال حقبة الفصل العنصري، وعندما تنضم تونس لإثيوبيا وجنوب أفريقيا في مشروع التحول الديمقراطي الجاد فإن الدول الثلاث تمثل نقاط الضوء اللامعة في القارة المنكوبة تاريخياً بالاستبداد والطغيان والانقلابات العسكرية والتبعية للمحتل الأجنبي والإفقار العام والفساد المتوحش.
لم يعد في إثيوبيا سجين سياسي، ولا مناضل منفي ولا مطارد، ولا ناشط مختفٍ قسرياً ولا خائف، ولا كاتب ولا صحفي يخضع نفسه للرقابة الذاتية ويلتزم برقابة أجهزة النظام، واليوم ينام الناس مطمئنين، كما لم يعد فيها حزب مغلق ولا جمعية ولا منظمة مجتمع مدني ممنوعة من العمل، والحريات العامة والخاصة متاحة للجميع، والنساء يتم تمكينهن، ويحصلن على نصف عدد الوزارات، ويتقلدن وزارة الدفاع ورئاسة الدولة لأول مرة في تاريخ إثيوبيا وأفريقيا، منذ استلم أبي أحمد السلطة (27 من مارس/آذار 2018) وهناك حراك إيجابي منعش يجلب الاستقرار بأسرع ما يكون، وهو استقرار طبيعي، وليس مفروضاً بالقهر.
والاستقرار، والسياسية الواضحة، والإصلاحات الجادة ، تجذب الاستثمارات، وتغري مجتمع المال والأعمال العالمي على المجيء لهذه البيئة والعمل فيها بنوع من الاطمئنان، وسط قضاء على طريق العدالة والاستقلالية، وأية بيئة أخرى لا تماثل البيئة الإثيوبية سياسياً وما يتوافر فيها من خطط وآليات للإصلاح فلا يُتوقع تدفق استثمارات، أو حدوث تنمية، أو نهوض اقتصادي، ومن أسف أن هذا هو حال العرب على مجمل الخريطة ، وطالما أن الديكتاتورية جاثمة فستظل الأوطان مقفرة والشعوب بائسة.
جائزة نوبل للسلام تطمئن هذا العام لأنها أصابت الهدف الصحيح، ودخلت المرمى المناسب، وكانت من نصيب رجل سلام حقيقي وجاد ومخلص، رجل سلام وبناء داخل بلاده، وسلام وتعاون خارج بلاده.
كتبت قبل فترة قصيرة هنا أن آبي أحمد زعيم إفريقيا الشاب، وهو جدير بأن يكون وريث مانديلا في التسامح والحوار والإصلاح وتقوية بلاده ولعب دور مؤثر في القارة السمراء لتعزيز التعاون والحوار وحل الأزمات فيها، وهو ما يحدث فعلاً، وهو ما يضع اسمه على قائمة الزعماء الواعدين والمؤثرين في العالم، وهو بعد نوبل يرسخ اسمه كزعيم عالمي كبير صاحب مبادرات وخطط سلام شجاعة، وهذا يتطلب منه التجاوب مع الحلول المرضية لأزمة سد النهضة بين بلاده ومصر.
كان رئيس كولومبيا السابق خوان مانويل سانتوس جديراً بنوبل للسلام عام 2016 لتوصله لاتفاق مصالحة تاريخي مع الجماعات المسلحة المتمردة في بلاده، وعلى رأسها منظمة (فارك)، لتضع الحرب الأهلية أوزارها في هذا البلد بعد أكثر من نصف القرن من الدمار، واليوم يستلم راية السلام قائد إثيوبيا الذي يرفض الحروب، ويحبذ البناء، وفي هذا رسالة إلى السلطويات بأن العمل لصالح الشعوب هو الذي يبني السمعة الحسنة ويحقق التقدير الدولي، وأن احترام إرادة الشعوب، وإطلاق الحريات، وفتح النوافذ، هو الدواء الناجع والوحيد للاستقرار والتطور.
مع كل ما فعله آبي أحمد لوطنه وشعبه، لكن هناك خصوم يعملون في الخفاء، وهم أعداء النجاح في كل بلد، لا يريدون له السير مطمئناً وهادئاً على هذا الطريق الصحيح، هم يلعبون بالورقة العرقية في الداخل لجعلها مشتعلة بهدف إشغاله عن مشروعه والإصلاحي والتنموي التاريخي.
وهناك في الإقليم الممتد عربياً وأفريقياً من لايريد لأي إشعاعات ديمقراطية ونهضوية أن تخرج من بلد كان في قلب المجاعة والتخلف لأن ذلك كاشف لفشله، وتأكيد أن المشكلة ليست في كثافة عدد سكان أية دولة وقلة مواردها، إنما في نهج الحكم المطلق المنغلق، وتدني كفاءة وقدرات الحاكم، وتشبثه بسلطة ليس جديراً بها.
المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه