إعلام السرب والسراب

يمكننا من الآن فصاعدا توصيف الحالة الإعلامية في مصر بأنها “إعلام السرب” على طريقة إعلام الحرب، والمصطلح ورد كـ”ذلة لسان” في تصريحات لأحد أساطين صناعة الإعلام في مصر، وهو رجل الأعمال الدكتور أحمد بهجت صاحب قنوات دريم، والتي شهدت مؤخرا أزمة بوقف أشهر برامجها ( برنامج العاشرة مساء لمقدمه الإعلامي وائل الإبراشي)، وفيما بدا أنها صفقة لعودة الإبراشي، وقبل ذلك الحفاظ على بقاء مجموعة دريم على قيد الحياة أعلن بهجت في حوار تلفزيوني أنه سيدخل في شراكة مع “إحدى الجهات في الدولة” والمقصود هو المخابرات، وأفصح بهجت صراحة “أن هناك اتجاها من الدولة لمجال الإعلام( يقصد السيطرة على الإعلام)، وأن وجهة نظرها أن لا يكون هناك شيء خارج السرب”.

آخر الحصون المنيعة

كان المذيع الذي أجرى الحوار (سيد علي) معبرا عن قناعة الوسط الإعلامي أن مجموعة دريم (أقدم المجموعات الإعلامية الخاصة) هي آخر الحصون المنيعة في وجه الاجتياح المخابراتي للقنوات الفضائية، وربما تأسست هذه القناعة على حيازة صاحبها للجنسية الأمريكية بجوار المصرية، وقدرة المجموعة من قبل على تجاوز أزمة ممتدة مع السلطة بدأت منذ أواخر حكم الرئيس مبارك واستمرت حتى انقلاب الثالث من يوليو 2013، وكانت تنصب حول قرار تحكيم بقيمة3 مليارات و800 مليون جنيه لصالح البنكين الأهلي ومصر (قيمة ديون لهما لدى المجموعة وقت أن كانت قيمة الدولار أقل من 5 جنيهات)، وظلت المجموعة تتملص من تنفيذ ذلك الحكم، حتى اندلاع ثورة يناير ومن ثم حكم المجلس العسكري الذي لم يقترب منها بسبب احتياجه إليها، وحين حاولت حكومة الدكتور مرسي تنفيذ الحكم، نجحت مجموعة دريم في تحويل الأزمة إلى معركة سياسية حول الحريات ومساعي السلطة لإغلاق صوت معارض لها، وكان ذلك أمرا شديد الحساسية للرئيس مرسي الذي كان حريصا أن لا يوصف عهده بالعداء لحرية الصحافة، ولعلنا لا ننسى تدخله شخصيا لإطلاق سراح رئيس تحرير إحدى الصحف تخصص في هجائه، فأصدر مرسي قرارا بتعديل تشريعي يمنع الحبس الاحتياطي في جريمة إهانة رئيس الجمهورية حتى لا يبيت ذلك الصحفي ليلة واحدة في السجن (إسلام عفيفي رئيس تحرير صحيفة الدستور السابق).

الشراكة الجبرية

ها هي آخر القلاع الحصينة إذن تسقط في قبضة المخابرات، وها هو رئيسها الذي ظل يصارع نظما سابقة ينهار، ويعلن الاستسلام التام لشراكة “جبرية” مع إحدى جهات الدولة!!!، لينقذ ما تبقى من ممتلكاته، فالرجل لا يقصر استثماراته على الإعلام، بل إنه يحتفظ بمحفظة متنوعة من الاستثمارات العقارية والإكترونية والسياحية والتجارية الخ، والرجل يشاهد بأم عينيه كيف تسطو السلطة على رجال أعمال آخرين كان بعضهم أقوى منه نفوذا ماليا وسياسيا مثل نجيب ساويرس الذي أجبرته السلطة على التنازل تماما عن قناته المشاغبة “أون تي في” ورجل الأعمال صفوان ثابت الذي وضعت السلطة ممتلكاته تحت التحفظ.

رغم أن بهجت أعلن عن قرب عودة وائل الإبراشي خلال أسبوع إلى الشاشة بعد الإعلان عن هذه الشراكة مع المخابرات، إلا أن الأمر ربما لا يسير كما أراد، وفي أحسن الأحوال فإن عودة الإبراشي –إن تمت- ستكون في شكل مختلف على طريقة الإعلامي محمود سعد ومن قبله منى الشاذلي، أي عبر برنامج منوعات وليس برنامج “توك شو”، فالتغريد المسموح به للسرب الإعلامي الآن سيكون فقط في هذه المجالات التي وصفتها الأسبوع الماضي في هذا المكان بـ”إعلام الشربيني الذي يركز على برامج الطهي والفن والرياضة والخناقات الزوجية الخ) ، وليس مسموحا لأحد بالتغريد خارج هذا السرب.

رأس الحربة

سقوط أقدم القلاع الإعلامية بقبضة المخابرات سبقه سقوط أحدثها وأسرعها انتشارا وهي مجموعة “سي بي سي” التي ظهرت عقب ثورة يناير، بطريقة غامضة، وبأموال غامضة، وامتطت صهوة الثورة، واستقطبت عددا من وجوهها، فانتشرت سريعا محققة أعلى المشاهدات، ثم كانت رأس حربة الثورة المضادة، ولم يشفع لها ذلك، ورغم أنها سعت لإرضاء السادة الجدد في المجال الإعلامي(المخابرات) بقبول شراكة نصفية، إلا أن ذلك لم يعد مقبولا، وتمت السيطرة الكاملة عليها، قبل أيام قليلة، وتواكب كل ذلك مع التخلص تباعا من عدد من الوجوه الإعلامية البارزة التي كانت تتنافس على “حجر السلطة” سواء كانت لميس الحديدي أو وائل الإبراشي أو تامر أمين أو جابر القرموطي، أو تامر عبد المنعم (الذي فر إلى الإمارات تجنبا لحكم بحبسه) الخ، فالزمن لم يعد زمنهم، وهم مجرد بقايا من تركة مبارك، وهم مجرد رؤوس قد أينعت وحان وقت قطافها، ، ليحل محلهم رجال جدد للعهد الجديد وعلى مقاسه، فهذا العهد لا يريد رؤية أي وجه يذكره بلحظات ضعفه، ولا يريد وجوها تمن عليه سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة بدورها في دعمه ومساندته للوصول إلى السلطة والبقاء بها.

رؤية السيسي

أصبح الإعلام المصري مجرد سرب، يشبه حقا سرب الطيور التي تحلق في السماء خلف قائد لها، فلا تبتعد عنه حتى لا تضل طريقها، أو تعرض نفسها للخطر، وهو بهذا الشكل حقق رؤية السيسي للإعلام، والتي عبر عنها في حوارات علنية أو مسربة، ولكن هذا السرب حول الإعلام المصري إلى سراب، يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا” وهكذا أصبح المشاهد المصري ينظر للاعلام الذي يبث من داخل مصر فلا يجده شيئا، فيضطر لمد نظره خارج الحدود متلمسا صوتا حرا، وقولا حقا، فتصبح الفرصة سانحة أقوى من أي وقت مضى للقنوات المصرية في المهجر لتعويض هذا المشاهد تعويضا حقيقيا عن حرمانه من معرفة ما يجري في وطنه، وخارج وطنه، ويؤثر بشكل مباشر عليه، وهذه مهمة لو تعلمون عظيمة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه