الحرية لـ “رابعة”

 

 

 

(1)

رابعة ليست شأناً إخوانياً، ولا قضية فئوية لمن يسمون أنفسهم “أنصار الشرعية”، ولا يجب أن تستمر تحت هذا الاحتكار.

رابعة جريمة ضد الإنسانية، ويجب التعامل معها بنظرة توثيقية وقانونية وسياسية وإعلامية أوسع وأشمل من النظرة التي حبستها لخمس سنوات في حجز للمشتبهين باعتبارها “قضية تحرش سياسي” أو “قضية عنف خارج عن القانون”، أو قضية صراع دموي على السلطة انتصرت فيه فئة على فئة فاستباحت دمها، وفي المقابل سعى الطرف المستباح لتأسيس “مركزية ثأر” تعتمد بشكل أساسي على التحريض المعاكس، وتغذية شعارات الانتقام، ونقل صراع الدم إلى أجيال جديدة يبدو مستقبلها مثقلاً بثنائية حدية للنصر أو الموت، وحسب تعبير أجدادنا في جنوب مصر: التار ولا العار.

(2)

في رأيي أن خمس سنوات كافية للتعامل الانفعالي مع جريمة القتل، خاصة وأن النظام القاتل هو المستفيد الأكبر من تصوير الصراع على هذا النحو: جماعات خارجة عن القانون تريد أن تفرض تصوراتها على النظام العام، أو كما تردد: إما أن نحكم مصر أو نحرقها! وفي المقابل هناك مجانية في الحديث عن المذبحة ليس سعيا لعدالة إنسانية تستدعي تجارب مماثلة في أنحاء العالم وتستلهم الحلول المجتمعية والأخلاقية الناجحة لتجاوز هذا الفخ الذي يهدد علاقات الناس وينذر بتقسيم نفسي وسياسي ومجتمع متطرف، تمتد فيه أسوار “مكهربة” من البغض والكراهية والتنابذ الذي “يسرطن” العقول والنفوس بعد أن سرطن الأبدان.

(3)

أخشى أن يكون هذا التعامل الغوغائي مع جريمة بهذا الحجم، خطة متعمدة من الطرفين، لأنهما يسلكان المسالك نفسها، ويتبعان النظرة نفسها. وبالمعنى الدارج: الطرفان حريصان على استمرار نار الثأر بينهما، وفق لغة التحريض الغريزي، ورفع شعارات العداوة المتبادلة، وتكييف الجريمة حسب مصلحة كل طرف، وتصوير الأخر باعتباره المجرم، المعتدي، غير الأخلاقي، المدعي، الكاذب، الذي يخفي أغراضاً خبيثة غير التي يعلنها بهدف حشد أنصاره والزج بهم كالحطب في نيران الصراع.. السلطة تفعل ذلك عبر إعلام مكثف ومتربص جعل من جماعة الإخوان “دنس وطني” وخطيئة تصم كل من يقترب منها، أو يسعى للتعرف على حقيقة الوضع، وفي المقابل تتعامل الجماعة كتنظيم مغلق لا يظهر منه إلا لغة إعلامية وسياسية عصابية، أقرب للعناد منها لمسلك المقاومة وأداء المعارضة والسياسية، والمخيف أن هذا الانفصام في التقديرات بين التنظيم وبين المتعاطفين مع الجماعة أو حتى بعض اعضاءها، ينذر الأن بنغيرات خطيرة في جسد ورأس الجماعة، كما ظهر من تباين الرؤى لدى قطاعات كبيرة من شباب الحركة الإسلامية عموما، ومن الانشقاقات المؤذية إعلامياً (ولا اقول تنظيمياً) لأن المؤذي تنظيميا هو تباعد الرؤى والمسافات بين الأجيال داخل الجماعة، وهي الظاهرة الملفتة التي يجب الاعتراف بها والاهتمام باستثمار الجانب النافع منها، والذي يتعلق باتساع مساحى الديموقراطية الداخلية، وضرورة رعايتها بلا انفلات تنظيمي، وهذا يستوجب فتح منابر وابتكار مستويات وآليات تضمن للشباب والمختلفيت التعبير عن رؤاهم بلا انفراط تنظيمي أو خروج يضر بالمشروع السياسي المهدد بالقصف من جهات استخباراتية وإعلامية دولية وليست مصرية فقط.

(4)

الحديث عن جريمة رابعة، ليس بعيدا عن هذه التحديات التنظيمية لمشروع الإسلام السياسي كله (وليس الإخوان فقط)، فهناك مشكلة لم يتم فحصها والاستفادة منها تنظيمياً عن طريق فهم شروط العمل السياسي الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وبالتالي بات العامل الفردي في النظر إلى جريمة رابعة، هو العامل الغالب، بكل ما يرافقه من معلومات مرسلة غير محققة بوثائق كافية ودامغة، وهي غوغائية تصلح للثأر وإرضاء نزعات الانتقام عند الأفراد، لكنها تساعد المجرم على الإفلات، ولهذا اقترح مثلاً تبني استمارة الكترونية لجمع البيانات من أولياء الدم، للتعرف على شهداء العنف النظامي منذ 28 يناير وإلى الأبد، وأن يتم تخصيص فرق ميدانية وبحثية من الشباب المتطوعين لتحقيق هذه البيانات واقعياً، لأن الاكتفاء بترديد شعارات القصاص وحق الشهداء من دون جمع أدلة قاطعة، ومن دون فعل توثيقي يسهل طمس الجريمة وتسجيها ضد مجهول، كما يسهل أحيانا التشكيك في حدوث كثير من الحالات والتهوين مما حدث، وفي رأيي أن مشروعاً من هذا النوع يمكن أن تتصدى له منظمات حقوقية أو لجان تحقيق خاصة في الدول المحترمة التي تحترم العدالة، لكن في دول الأشلاء والقوة الغاشمة لا يجب أن تتخلى التنظيمات السياسية عن دورها في تحري الجرائم ضد الإنسانية بأسلوب قانوني احترافي يبتعد عن حروب الإعلام والمبالغات التي قد تفيد في التراشق مع النظام، لكنه تصيب القضية  بالخواء والضعف، ومثل هذا المشروع يجب أن ينفتح بأفق إنساني ليشمل الجميع متجاوزا الحدود السياسية والفكرية والجغرافية،  ويمكن أن تستفيد منه جماعة الإخوان في مواجهة الانفراط التنظيمي نتيجة اختلاف وجهات النظر وعدم التمركز على قضايا جوهرية وجداول عمل لها تستوعب طاقات الأعضاء للوصول إلى أهداف استراتيجية طويلة، وليس للاستهلاك في حروب يومية تتفوق فيها اللجان الأمنية المدعومة بأموال الفساد ومنصات الإعلام المخابراتي.

(5)

ما أود أن أنصح به يتلخص في ضرورة تحرير “رابعة” من الخصخصة والاحتكار، فالحديث عن هذه الجريمة (التي يرفضها كل ذي عقل سليم وفطرة سوية) لا يجب أن يظل حديث ضغينة واستبعاد، يرتاح فيه الأنصار لتبادل أشعار الخنساء في سرادقات العزاء، أو الاستمرار في استنكار مواقف المعارضين لمشروعهم السياسي والتذكير بمطالبات “فض الاعتصام”، لأن الفصل بين الموقف السياسي والموقف الإنساني هنا جريمة أخرى يرتكبها هذه المرة “جمهور الضحايا”، لأن حادث القتل وقع من طرف ولم يقع من جمهور أو معارضة سياسية، فهناك (مثلا) من ارتكب جريمة القتل مستغلاً مشاجرة في ملعب كرة قدم، كان الاختلاف في اللعبة وكانت هناك أهداف وصراعات، لكن كثيرين لم يشاركوا في القتل، ولم يوافقوا عليه، وبالتالي فإن نظرة أنصار رابعة للمجتمع كله باعتباره قاتلاً، ستضعهم في مواجهة فئات كثيرة تختلف معهم سياسياً ولا تختلف معهم إنسانياً، وهذه النظرة التي تدين الجميع بلا تحقيق وتحقق، ستؤدي إلى حالة من العزلة النفسية والعقلية تحاصر أصحابها، فيخسرون بها أنصاراً كثيرين يتعاطفون مع الضحايا ويطالبون بمحاكمة قتلة الشهداء جميعاً، وهم القتلة الذين افلتوا من المحاكمات أكثر من مرة في ثلاث فترات حكم مختلفة، فقط لأننا ساذجون نصرخ ونلطم بإخلاص على المقتولين من أحبابنا، لكننا نخطيء في سبل استعادة حقوقهم.

(6)

لهذا أقول إن “رابعة” ليست موسماً لفريق، وليست شأنا للإخوان وأنصار الشرعية، لكنها حلقة من مسلسل إهدار الدم المصري بذرائع كاذبة يصطنعها النظام ليقسمنا وينشر بيننا الخوف من بعضنا البعض، أو يدفعنا للخطا في ردود الفعل فيصطادنا ويصفينا تحت مظلة الإرهاب الزائفة.. رابعة هي قضية الحق الذي لا يسقط طالما لم تحتكر فئة أو جماعة هذا الحق لنفسها، ولم تتسلط بصخب فترفع صوتها عاليا لتتحدث عن ضحاياها وفقط، بينما بقية الضحايا (الذين لا يملكون أبواقا ولا تنظيمات) قابعون في دهاليز الصمت والنسيان.

لهذا أقترح أن نتفق على يوم لذكرى الشهيد الشعبي بالتوازي مع ذكرى الشهيد الحربي، فليظل 9 من مارس/آذار (يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض) كما هو، يوما لشهداء الدفاع عن الحدود ومواجهة الأعداء الخارجيين، لأن هذا يساعد على بقاء شرعية الجندي دائما مرتبطة بالقتال ضد الصهاينة لا الصلح معهم، وهذا لا يتعارض مع اختيار يوم عام لشهداء الشعب في مواجهة أعداء الداخل، وأقترح أن يكون يوم 28 يناير هو عيد الشهيد، بكل ما يمثله من عمومية وفخر لا يحتكرها تيار، ولا تهيمن عليها مناسبة فئوية

(7)

فليكن 25 من يناير/كانون الثاني يوم “ثورة الشعب”.

وليكن 28 من يناير/كانون الثاني يوم “شهيد الشعب”. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه