أمريكا.. واحتواء طالبان

لا تمانع إدارةُ الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، في التفاوض مع طالبان، ولكنها تطمح إلى أن تُلجِئها إلى طاولة المفاوضات، تحت ضغط الضربات العسكرية

برغم استئناف حركة طالبان هجماتها على القوات الأفغانية، إلا أن وقفها لإطلاق النار، لمدة ثلاثة أيام، بمناسبة عيد الفطر، وذلك بعد إعلان الرئيس الأفغاني، أشرف غني، وقفا لإطلاق النار، من جانب واحد، شكّل فرصة لآمال السلام في ذاك البلد الذي تواجه فيه أمريكا استعصاء واضحاً وطويلاً، نسبياً.

  لقي إعلان لرئيس الأفغاني بوقف إطلاق النار دعما وترحيبا من وزارة الخارجية الأمريكية؛ فهل يكون ذلك تهيئة لسلام بين الحكومة الأفغانية وطالبان؟ وما التصور الأمريكي؟

لا تزال الحكومة الأفغانية ضعيفة، داخليا، وغيرَ قادرة على بسط سيطرتها على البلاد، فيما لا تزال حركة طالبان، برغم الحرب الطويلة عليها، منذ غزت أمريكا، عام 2001، بتحالفها الدولي، هذا البلدَ الصعب، والأكثر فقرا، لا تزال صامدة، وقادرة على إظهار الحرج الأمريكي.

لا تمانع إدارةُ الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، في التفاوض مع طالبان، بل تطمح قي أن يُلجِئها إلى طاولة المفاوضات، تحت ضغط الضربات العسكرية.

وكانت حكومة الرئيس الأفغاني قد قدَّمت لطالبان عرضا للمصالحة، في فبراير/ شباط، 2018، لعلَّ أهمَّ ما فيه الاعترافُ بطالبان، حزبا سياسيا؛ لتمكينها من المشاركة في انتخابات عادلة وحرَّة ونزيهة. والهدف واضح: دمج طالبان في مؤسسات الدولة، وإنهاء الحرب. فيما لا ترى طالبان إمكانية لوقفها القتال، ما دام الاحتلال الأمريكي قائما.

تماسك طالبان

وهنا يحضر إلى الذهن العراق، فقد عملت واشنطن، ولا سيما بعد تقرير بيكر/ هاملتون، أواخرَ 2006، على تخفيض وجودها العسكري، هناك، وتسليم البلد إلى قوى سياسية عراقية، ولو أن العراق لم يُظهر، حينها، مؤشِّراتٍ كافيةً على الاستقرار. وكانت “المصالحة الوطنية العراقية” هدفا محوريا في التقرير، وهو الأمر الذي لا يتمُّ دون إقناع المكوِّن السُّنِّي، الأكثر تمرُّدا، بدستور وفرص فعلية لإنصافهم. وكان الخيار الذي دعا إليه التقرير، فيما يخصُّ الوجود العسكري الأمريكي هو سحبُ معظم القوات والاقتصار على أعداد قليلة، نسبيا، تتضمن مستشارين ومدرّبين، يضمنون استبقاء العراق ضمن الرؤية الأمريكية له، وللمنطقة.

وكان هذا النموذج ممكنا، نظريا، في أفغانستان، لولا فرقٌ جوهري، في طبيعة الطرف المتمرِّد، ففي أفغانستان، طالبان حركة سُنِّية، نعم، لكنها أكثر تشدُّدا، دينيا، وأكثر تماسكا، وانضباطا، وقد تكون أكثر عنادا، في رفض الاحتلال الأمريكي، كما قال عبد السلام ضعيف- السفير الأفغاني في باكستان، قبل الغزو الأمريكي- في كتابه: “حياتي مع طالبان”، موجِّها كلامَه إلى القوى الأجنبية المحتلة:” أفغانستان لا يمكن إخضاعها بالقوة.”

 كما أن الطرف الإقليمي المؤثر على طالبان، وهي باكستان، تعتري علاقتُها بواشنطن، اضطراباتٍ، وشكوك.

ومقابل التماسك في طالبان، ثمة ضعف داخليٌّ في حكومة (غني)، فهي تعاني أزمة شرعية، وضعف في السيطرة، حتى على حكّام ولايات يتمرّدون على قراراتها، في المقابل فإن طالبان لاعبٌ لا يمكن تجاهله، وقد صمد، وظل فاعلا، ومتماسكا فكريا، وكيانيا، على مدار سنين الغزو الأمريكي لأفغانستان، وهي تنشط الآن في 70 في المئة من أفغانستان، بحسب تحقيق لهيئة الإذاعة البريطانية، صدر في فبراير/ شباط 2018.

 وأما إدارة ترمب فقد اعترتها تغييرات مهمة: أخذ جون بولتون مستشار الأمن القومي، مكان هربرت رايموند مكماستر، ومايك بومبيو أصبح وزيرا للخارجية مكان ريكس تيلرسون، وهذا -كما يتوقَّع- سيجعل السياسة الأمريكية تجاه أفغانستان، والانسحاب وشروطه، محلَّ تحديث، وتعديل.

التراجع عن الانسحاب

وكان ترمب، في أغسطس/آب 2017، قد تراجع عن قراره السابق بالانسحاب من أفغانستان، وبرّر ذاك التراجع بأنَّ انسحاب قوَّات بلاده من هناك سيترك فراغا للإرهابيين يستغلُّونه، ولذلك فالقرار هو البقاء، و”القتال من أجل الفوز”، متحاشيا بذلك “الأخطاء التي ارتكبت في العراق” وقال إنه يريد أن ينهج نهجا جديدا يعتمد على الأرض، بدلا من تحديد وقت مسبق للانسحاب، كما أنه فضّل عدم الإفصاح عن عدد القوات، مبقيا على التنسيق مع حكومة أفغانستان، طالما أن أمريكا رأت التزاما وتقدُّما منها. وآخر ما انتهت إليه إدارة ترمب، في أغسطس/ آب الماضي، في التعاطي مع طالبان هو استراتيجية عسكرية جديدة تتضمن زيادة الغارات الجوية؛ لإرغام طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع سلطات كابل.

فليس مستبعدا، وفق توجهات الرئيس ترمب، أن يتجه نحو مزيد من تخفيض التواجد الأمريكي المباشر، وتحميل حكومة أفغانستان مزيدا من الأعباء والتكاليف، دون أن تفقد، بالطبع، واشنطن، النفوذ في هذه المنطقة الحيوية، جيوإستراتيجيا، في آسيا، والتي تستخدمها كمرتكز في مواجهة الصين. لكن ذلك المَسعى يبقى معلَّقا بتفاعلات طالبان، فهي برغم (تشدُّدها) تختلف عن تنظيم القاعدة، وعن تنظيم الدولة (داعش) الذي يحاول منافستها، والمزايدة عليها، في عمليات دموية تستهدف مدنيين.

ومع أن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس قال بأن طالبان وداعش لديهما هدف مشترك، وهو زعزعة استقرار الحكومة المنتخبة في كابول، إلا أن المعلن أمريكيا هو إمكانية التفاوض مع طالبان، بخلاف داعش، والقاعدة.

وتتباين طالبان بحكم ظروف النشأة، تلقّت دعما باكستانيا ماديا وبالسلاح والتدريب، ودعما ماليا من السعودية، ثم اعترفت باكستان، والسعودية والإمارات العربية المتحدة، (سحبت الأخيرتان اعترافهما بها سنة 2001؛ نتيجة ضغوط دولية) ثم هي تختلف عن القاعدة وداعش، بحكم حدود طموحاتها، وعقيدتها السياسية، حيث لم تمنعها من إقامة علاقات ديبلوماسية مع دول العالم الإسلامي، بشروطها، فقد تكون ثم فرصٌ لنوع من التفاهم معها…لكن يقف مقابل تفعيل هذا الخيار، العامل الفكري المتشدِّد.

العوامل المؤثرة

قد يتحكم في موقف طالبان ثلاثة عوامل، أولا، العمليات الدموية التي يرتكبها داعش، (ومع أن مسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية يدّعون أن الضربات الأمريكية أهلكته، وتذهب تقديراتهم إلى أن أعدادهم تناقصت، إلا أن تقديرات أخرى تقول بغير ذلك، معتمدة على الاختراقات الدموية التي نجح هذا الفرع الداعشيّ في إحداثها في قلب الدولة الأفغانية) فقد تؤدي مفاعيلُ تلك العمليات التي ينفذها داعش إلى خلط الأوراق، وتعكير طبيعة الصراع.

والثاني: الرأي العام الأفغاني المتأثِّر برأي العلماء الذين دَعَوْا إلى إعلان وقف لإطلاق النار، وحثُّوا طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأما العامل الثالث فلعلَّه مقدارُ التراجُع الأمريكي، بالتخفيف من مظاهر الاحتلال.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه