العصيان المدني

وللسلطات المستبدة دائما جناح ديني تستخدمه لمواجهة الشعوب الثائرة تحت إرهاب ” مغضبة للرب؟!!

على مقاعد المقهى في جلسة رمضانية شعبية غير معدة مسبقا بين أفراد لا يعرف بعضهم بعضا، وبين أصوت الأغاني والتواشيح وصخب بعض الأصوات العالية النكراء وأصوات مياه النرجيلة التي تحركها أنفاس مشتاقة للدخان ورؤوس تسعى للانفصال الافتراضي لحظات عن واقع مرير يطاردهم طوال يومهم، دارت أحاديث مختلفة، منها ما تبدد مثل الدخان بسرعة ومنها ما أثار جدلا ولغطا واختلافات واتفاقات، وكان الحوار الرئيسي الذي استمر حتى نهاية السهرة الرمضانية يدور حول ارتفاع أسعار مترو الأنفاق في مصر وموقف المصريين منه والذي رآه البعض موقفا سلبيا، بينما أكد البعض الآخر أن مظاهر الاحتجاج التي شهدتها بعض محطات المترو بعد إعلان ارتفاع الأسعار هي خطوة إيجابية نحو تحرك شعبي لمناهضة نظام التجويع والظلم الذي يحكم مصر رغم نجاح النظام العسكري في قمع هذه الحركة بسرعة واعتقال عشرات من المصريين وإيداعهم المعتقلات حتى الآن.

ما استوقفني في هذا الجلسة هو ترديد مصطلح العصيان المدني أكثر من مرة، حيث اعتبر البعض أن موقف بعض المصريين في هذا اليوم هو نوع من أنواع من العصيان المدني تجاه القرار الغاشم برفع أسعار مترو الأنفاق بطريقة تفوق حدود دخل معظم فئات الشعب المصري.

 السؤال الذي يشكل المحور الرئيسي لمقالي اليوم هو هل كانت حركات الاحتجاج المحدودة داخل بعض محطات المترو نوعاً من أنواع حركات العصيان المدني أو حتى إرهاصة في هذا الطريق؟

ربما دفعت هذه المشاهد البعض إلى طريق التفاؤل المبالغ فيه، وهم معذورون وسط هذا المناخ القمعي الاستبدادي، وهو ما جعل البعض يصفون الأحداث على أنها بداية لعصيان مدني، وربما هم في هذا الموقف يخلطون بين الواقع وأمانيهم بل وأمانينا كلنا.

بعيداً عن التعريفات الكلاسيكية للعصيان المدني والأصول التاريخية المتضاربة له دعونا نتحدث من خلال واقعنا المصري ومن خلال خصوصيته التي لا يشترك أو يتشابه أي واقع معها.

ثورة مدنية

المعنى الدارج للعصيان المدني هو ثورة مدنية على القوانين التي تؤدي نتائجها في النهاية إلى مشهد ظالم للأغلبية ومنحاز لأقلية مستغلة، هو التوقف عن التعامل مع كل مظاهر الحياة اليومية بمعنى التوقف عن العمل والتوقف عن التعامل مع مرافق معينة ومقاطعة كل أدوات الدولة وفعالياتها، وهو أمر يختلف شكله من حالة لحالة وطبقا لموضوع العصيان ودوافعه وأسبابه، وهو أيضاً أمر يختلف عن الإضراب عن العمل الذي يتعلق ببيئة الطبقة العاملة فقط.

وللعصيان المدني تاريخ عالمي في مجتمعات عديدة فقد مارسه غاندي في الهند في مواجهة الاستعمار الإنجليزي، ومارسه مارتن لوثر كينغ في نضاله للبحث على حرية الزنوج في أمريكا ومواجهة سياسة التمييز العنصري واضطهاد الملونين، واقترب منه المصريون أثناء ثورة 1919 فترة نفي زعيم الثورة سعد زغلول، وأدى ذلك إلى شلل الحياة اليومية تماما وتعطل معظم مرافق الدولة.

العصيان مشروع

ما أريد مناقشته هي تلك الانتقادات التي يتم توجيهها لمفاهيم العصيان المدني باعتبارها دعوى للتخريب ومخالفتها للقوانين وإحداث الضرر بالمواطنين والبلاد، بل وتصل الانتقادات إلى تكفير الداعين للعصيان المدني باعتباره دعوى للخراب، وإهدار لقيمة العمل الذي تدعو له كل الأديان!!

أي مصطلح في الواقع يرتبط معناه وصلاحيته بمحتواه، ويرتبط هذا المحتوى بالواقع المحيط بأصحاب الدعوى ونسبة عددهم ونسبة مصالحهم بالنسبة لمجموع أفراد المجتمع، وكل هذه العوامل هي التي تحدد مشروعية الدعوى من عدمها.

وبتبسيط أكثر، إذا كانت قيمة عمل مجموع كبير من الشعب تصب في مصلحة عدد قليل بينما لا يتمتع السواد الأكبر بنتاج عمله الذي يتم استغلاله لصالح الفئة الصغيرة من خلال أدوات سياسية ونظم حكم تتمثل في الفاشية والهيمنة العسكرية والاستبداد والفساد، فإن ضرر التوقف عن العمل هنا سيكون موجهاً تجاه مصلحة المستغلين والمستبدين، وسيساهم في إضعافهم وتحريك الأوضاع السياسية تجاه ثورة على هذا الاستبداد تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية.

وقد يتصور البعض أن توقف الفئات المقهورة عن العمل سيوقع عليها ضرراً مادياً، فهذا تصور خاطئ حيث تعيش هذه الفئات من الأساس في حالة استغلال دائم لجهودها وعرقها وفائض قيمة عملها يصب في صالح الأقلية المستبدة، وهنا ستكون النتيجة السلبية للتوقف عن العمل موجهة في الأساس للفئات المستبدة، وداعمة لكل التحركات المستهدفة للحرية والعدالة الاجتماعية.

المرفهون يكرهون العصيان

يحضرني مثل طريف قد يوضح المعنى، بعد أيام من ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، انزعجت الفئات التي كانت تعيش في رغد منفصلة عن المجتمع من توقف حياة الفخفخة والثراء التي كانت هذه الفئات تعيشها دون الإحساس بالأغلبية من الجوعى والمرضى والفقراء، الذين يشكلون القوى العاملة الرئيسية التي تنتج كل الخيرات التي تعيش في نعيمها هذه الأقلية، حتى إن ممثلة مشهورة خرجت تعبر عن غضبها من الثورة التي تسببت في إغلاق محالات الكباب وبكاء طفلها بسبب عدم قدرتها على توفير الشواء الممتع له؟!! هذه الحالة التي عبرت عنها الممثلة وكأنها مأساة إنسانية بشعة لا تعني الغالبية من الفقراء والمعدمين السائرين في طريق الثورة فهم جوعى من الأساس.

إذا الدعوة إلى العصيان المدني في مواجهة واقع مستبد مستغل وفي مواجهة سياسات تجويع وإفقار واستغلال للأغلبية هو خطوة تراكمية إيجابية تجاه ثورة اجتماعية تستهدف تطبيق العدالة الاجتماعية.

رجال الدين والنفاق

وللسلطات المستبدة دائما جناح ديني تستخدمه لمواجهة الشعوب الثائرة تحت إرهاب الغضب الإلهي، وهؤلاء الذين يطورون الخطاب الديني القائم على المساواة والعدالة الاجتماعية إلى خطاب ديني «مودرن» يبرر للاستغلال ويدين التحركات الثورية المستهدفة للتغيير باعتبارها مغضبة للرب؟!!

مع بداية الثورة الصناعية في أوربا وظهور التحركات النقابية ودعاوى العصيان والإضراب أعلى رجال الدين المسيحي من المبدأ الإنجيلي الذي ينص على «إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، بهدف الإعلاء من السلطة الدينية للحاكم وتكفير الخروج عليه أو الاحتجاج على سياسته، وبالطبع كان التفسير لرجال الدين الانتهازيين يستند على مغالطات تبريرية أولها الخلط المتعمد بين الذات الإلهية وذات الحاكم.

وفي مجتمعاتنا الإسلامية يقف الجناح الديني للسلطة لاستغلال الدعاوى الدينية التي تعلي من قيمة العمل، في تكفير كل من يدعو للعصيان أو الإضراب باعتباره معطلا للعمل وبالتالي مخالفا للدين، وتناسى هؤلاء الصورة المتكاملة للمنظومة الدينية والتي لا يمكن التعامل معها بشكل مجتزأ، ومن أهم مشاهدها هو ارتباط قيمة العمل بمبدأ «أعط للعامل حقه قبل أن يجف عرقه» ومن دون تطبيق هذا المبدأ فلا قيمة لأي عمل قائم على الاستغلال والقمع.

وفي التراث الديني الإسلامي، سواء في النصوص أو الأحاديث أو الاجتهادات ما يشير إلى أهمية العمل والجهاد على انتزاع الحقوق ومواجهة الظلم والاستبداد، ومنها حديث رسول لله صلى الله عليه وسلم «أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»… وقول أبي ذر الغفاري رضي الله عنه «عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج شاهراً سيفه»… وما تم نقله عن على بن أبي طالب رضي الله عنه «ما افتقر فقير إلا بما مُتِّعَ به غني» أو كما ينقلها البعض «ما اغتنى غني إلا بفقر فقير»… كل هذه الأمثلة والوقائع والأدلة تنفي حجج رجال الجناح الديني للدولة المستبدة، ويؤكد أن العصيان والإضراب وقول الحق أدوات جهاد إيمانية إذا حسُن استخدامها.

وبصرف النظر عن توصيف حركة الاحتجاج المحدودة تجاه ارتفاع أسعار تذاكر المترو، فإن الواقع المصري وما يحيط به من مظاهر استبداد واستغلال وفساد وبطش وقمع، يشير إلى أن العصيان والإضراب وكل أدوات الاحتجاج أصبحوا ضرورة حياتية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه