صناعة تزييف التاريخ

في رواية “مزرعة الحيوانات” الشهيرة، للروائي العظيم “چورچ أورويل”، تثور الحيوانات على صاحب المزرعة المستغل، فتطرده من المزرعة و يحكموا أنفسهم بأنفسهم، في توقف -هكذا ظنوا-استغلال البشر لهم، ويتم إدارة خيرات المزرعة لصالح قاطنيها من الحيوانات المختلفة.

تختار الحيوانات حيوانا منهم ذكيا ليكون قائداً يدير شؤونهم بالعدل والمساواة، فيقع الاختيار على الخنزير نابليون -هكذا اسمه- يبدأ نابليون حكمه بعظيم الكلام عن ضرورة التكاتف والعمل لتحقيق خير ورخاء المزرعة وسكانها.

بالطبع تسود الحيوانات روح التفاؤل بعد نجاح ثورتهم في إزاحه البشر المستغلين، وبداية حكم الحيوانات لأنفسهم ولا فرق بين بقرة وحصان ودجاجة وخنزير، فالجميع حيوانات كان البشر يستخدمونها إما لخدمتهم بامتطاء ظهورهم أو أكل لحومها وإطعامها الفتات. أما بعد الثورة فخير المزرعة لأصحابها ولا أحد من الآن سيفعل بهم ما فعله البشر.

عودة الشر

إليّ هنا يبدو الأمر مبشراً وجيداً ويدعو للأمل والتفاؤل، ولكن الحياة لا تعرف استمراراً للخير أبداً، وعلى مر التاريخ ينتصر الخير فيجد الشر طريقة للعودة والسيطرة على الأمور، ليبدأ فاصل جديد من الصراع الأزلي لإعادة الأمور الي مآلاتها.

يبدأ الخنازير في التعامل مع بقية الحيوانات على أنهم طبقة أعلى بعد مرور سنوات قلائل على الثورة الكبرى بل ويستخدمون الأسرة التي كان البشر يستخدمونها للنوم ويبدأ نابليون الحاكم في التلاعب بالجميع لتحقيق امتيازات لنفسه وفصيلته، وكالعادة تبدو الأمور ملتبسة أمام الشعب “الحيوانات” فلا يبدو الأمر يقيناً أمامهم، ولا تظهر الحقيقة واضحة ويظل الغموض والتباس الأمر سيد الموقف.

هناك لوحة دونت عليها الحيوانات تاريخ المزرعة والثورة تذكر الجميع بما كانوا عليه، وكيف أصبحوا والأدوار التي لعبها كل فرد، وتسرد الوقائع والأحداث للفخر وقبله التذكر، وبعده لتحديد شكل عملهم في المستقبل، يذهب نابليون ليلاً خلسة لمسح أحداث وإضافة غيرها في لوحة تاريخ المزرعة، والغرض شيطنة أحدهم يرى أنه خطر علي سلطته أو إضافة بطولة لنفسه لم يصنعها بغرض زيادة قدرة عند ذوي ذاكرة السمك، وما أكثرهم من رعيته، والأهم خلق أجيال جديدة لم تر رأي العين ما حدث، ولكنهم سمعوا من عملاء نابليون والمستفيدين من حكمه.. التاريخ الذي يريد نابليون للجميع أن يحفظوه، فيتحول البطل إلى خائن، والجبان إلي فارس والأبله إلي مفكر والعظيم إليّ فاشل، وتتبدل الحقائق وتلتبس الحقائق، ويتغنى الشعراء ببطولات زائفة، ويتحول الشرف إلى دنس، والحقارة وبيع الذمة لمكاسب شخصية إلى حكمة ورؤية وتعقل، والغاية أن يبقى الفاشل والعميل على رأس السلطة، فيتعطل العقل ويبقى النقل، ويصبح المكذوب هو الأصل وتضيع الحقيقة وراء سطوة ضجيج الكذب.

المألوف

تري هل يبدو هذا الأمر مألوفاً؟

أعتقد جازماً أنه مألوف ونراه رؤي العين، ونعيشه واقعاً يومياً، وتضيع أصواتنا وسط زحمة الرغبة في ترديد الأكاذيب المريحة. فالحقيقة دائماً تتطلب جهداً، وهي بعد ذلك ليست بجاذبية الكذب، فلان فاشل ومجنون وأبله ومعدوم الرؤية لا تحتاج الكثير للكثير في وصم أحدهم، ولكنك بالتأكيد تحتاج الكثير لإثبات العكس، وأن أعداءنا يريدون تماماً إهالة التراب علي من تحداهم يوماً فانتصروا عليه بقوتهم وعتادهم وثرائهم….ثم وإعلامهم بعد وفاته، والعكس، فلان صاحب دهاء وحكمة وروية، ما دام يحقق ما هو مطلوب منه.

تلك حالة الأمم التي لا تهتم بالتفاصيل، ولا تملك الرغبة في مد البصر لما هو أبعد من تحت أقدامها، ولا تملك الجهد لدراسة تاريخها.

تزييف التاريخ والتلاعب به يتم يومياً وعلى مدار الساعة، وبشكل متواتر وبطرق شتى، كتب، مقالات، أفلام وثائقية، أفلام ومسلسلات تلبس الباطل ثوب الحق وتلبس البهتان ثوب الحقيقة، ونحن نسير وراء من يتلاعب بنا تماما كما سار الحيوانات وراء نابليون الخنزير.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه