سعد الله الجابري الزعيم السوري الدوغري

عُرف مصطفى النحاس باشا في السياسة المصرية والدولية بأنه رجل مستقيم “دوغري” لا يعرف اللف ولا الدوران وظلت هذه صفته البارزة حتى مع تقدمه في السن وهو الذي عاش 86 عاما من 1879 وحتى 1965، فلم تُثنه السنوات عن التمسك بهذا الخُلق الرفيع ..
ومن العجيب أن مصطفى النحاس فيما نقل لنا عنه من آرائه في الزعماء العرب المعاصرين له لم يصف بهذه الصفة  إلا سعد الله الجابري الزعيم السوري الكبير الذي اشترك معه في تأسيس الجامعة العربية، وكان أقرب الزعماء العرب إلى الحق والصواب والوطنية مع كل التقدير لهؤلاء الذين أسسوا الجامعة العربية وصدرت بشأنهم قرارات الشياطين أن يتم التخلص منهم واحدا بعد الآخر ..

فقد كانوا عندما أسسوها في البداية قد رسموا لها مستقبلا واعدا غير ذلك الذي نجح الغرب في تحويل مسار الجامعة إليه من خلال تعديل نصوص التأسيس وميثاق العمل العربي، وميثاق الدفاع المشترك على نحو جعل الجامعة بعد سنوات من نشأتها كيانا أقرب إلى البرود منه إلى الحمية، وأقرب إلى تكريس الأوضاع منه إلى  إحقاق الحق، ولم يتحقق هذا التعديل في فكرة الجامعة إلا بغياب مصطفى النحاس وسعد الله الجابري و تفكيرهما المستقيم .

مسيرة الجابري

كان سعد الله الجابري (1893 ـ 1947) الذي توفي قبل أن يُتم الرابعة والخمسين من عمره نموذجا نادرا لنُبل الأصل والسلوك والغاية لم يوجد في عصره بين نبلاء أوربا الذين حفلت سجلاتهم العائلية والشخصية والسياسية بالتسجيل والتبجيل..
كيف بك إذا عرفت أن والده كان مُفتي ولاية حلب، وأن جده كان مفتي حلب ونقيب أشرافها، وأن والد جده كان كذلك مفتي حلب ونقيب أشرافها، وأن سلسلة أجداده المُتصلة بالبيت الحسيني كانت على هذا النحو من اتصال المجد والشرف والعلم والأصل والنسب..
من طريف ما يُذكر في هذا المقام أن والد الرئيس السوري هاشم الأتاسي 1875-1960 الذي كان الجابري نائبا له في المؤتمر السوري كان مفتي حمص..
ليس هذا فحسب بل إن سعد الله الجابري كان الشقيق الأصغر بين ثمانية من الأشقاء المتعلمين البارزين النبلاء الذين خدموا وطنهم في كثير من المواقع سواء في عهد الدولة العثمانية أو في العهود المتعاقبة من النُظم السياسية التي تعاقبت في سرعة وتدافع على الأرض السورية. كان من هؤلاء الأشقاء: نافع باشا وضياء الدين أفندي ومراد أفندي وإحسان بك وفاخر بك.
نجح سعد الله الجابري مع أقرانه من السياسيين في الحفاظ على أرض سوريا  وعلى استعادة وحدتها بعد أن كان الفرنسيون قد قسموها بجبروتهم إلى دُويلات صغيرة على النحو الذي كانوا يُريدونها شبيهة بالكوميونات التي أحاطت بفرنسا في بداية العصور الحديثة والتي لا يزال أثرها موجودا في سويسرا التي تحدٌت التقسيم على نحو ما تحدٌت سوريا هي الأخرى التقسيم واستطاعت رغم كل شيء أن تحافظ على سوريا الموحدة..
وذلك بفضل زعماء من أمثال سعد الله الجابري جمعوا بين سلامة النية وإخلاص الغاية وسعة الأفق والجود بحياتهم وجهدهم من أجل وطنهم. ومن هؤلاء إبراهيم هنانو (1869 ـ 1935) وهو الزعيم السابق على سعد الله الجابري والمعاصر لسعد زغلول 1859-1927 وإن كان تاليا له في الميلاد والوفاة.
وقد كان من أقران سعد الله الجابري المخلصين في كفاحهم الوطني: شكري القوتلي 1891- 1976 الذي تولى رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة وجميل مردم بك 1893- 1960 الذي تولى رئاسة الوزارة، وخالد العظم 1903- 1965 الذي تولى رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة

 

الاتصال بالحياة العامة

بدأ سعد الله الجابري اتصاله بالحياة العامة والسياسية منذ ألحقه أخوه إحسان الجابري بالكلية الملكية السلطانية في إسطنبول فاتصل بأنداده العرب وأسسوا “جمعية العربية الفتاة” في الوقت الذي كانت “تركيا الفتاة” قد حازت الإعجاب والتأثير..
استكمل سعد الله الجابري دراسته في ألمانيا وعاد منها مع إعلان الحرب العالمية الأولى فجُنٌد في الجيش العثماني، وأصبح مراقبا للأرزاق وقوافلها (ما يقابل الإمداد والتموين) في أرض الروم، وبقي طيلة الحرب العالمية الأولى في تلك المدينة المعروفة.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفتيت الدولة العثمانية بين الحلفاء المنتصرين هبٌت الشعوب العربية من أجل حقها في تقرير المصير والاستقلال وعلى نحو ما اندلعت ثورة 1919 في مصر..
قد اندلعت ثورة 1919 في سوريا بقيادة إبراهيم هنانو، وانضم سعد الله الجابري إلى هنانو وشارك في المؤتمر السوري العام الذي انعقد في 1919 و1920، وبلغ نشاطه حدا أزعج الفرنسيين فقرروا اعتقاله في سجن أرواد ورافقه في هذا الاعتقال هاشم الأتاسي.. ولما تطور الصراع إلى قبول فرنسا بمبدأ الحكم الدستوري والانتخابات لم يتردد سعد الله الجابري وأقرانه في دخول الانتخابات ففاز فيها كما فاز الزعيم إبراهيم هنانو؛ لكن الفرنسيين ألغوا المجلس التأسيسي بعد انتخابه، وهكذا اندلعت الثورة من جديد.
كان سعد الله الجابري من الوطنيين الذين استطاعوا تحقيق التآلف بين الزعامات المختلفة، وبفضله وفضل زملائه تم تشكيل الكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي، وقد انتخب هو وإبراهيم هنانو وكيلين لها.
وحين كانت نذر الحرب العالمية الثانية قد بدت في الأفق، وأراد البريطانيون والفرنسيون تأمين الجبهات في البلاد التي كانوا يسيطرون على مُقدٌراتها بقوة السلاح اندلع الصراع من جديد بين الشعب السوري بقيادة الكتلة الوطنية وبين الوجود الفرنسي، وحكم على سعد الله الجابري بالسجن ثمانية أشهر ثم حكم عليه بالنفي.
كان هذا كله مع إصرار الشعب السوري على الكفاح مقدمة لعقد معاهدة 1936 في نفس العام الذي عُقدت فيه معاهدة 1936في مصر. وبمقتضى هذه المعاهدة التي شارك سعد الله الجابري في التفاوض عليها وتوقيعها صدر العفو العام عن السوريين، وتم الإفراج عن الوطنيين وتشكلت حكومة جميل مردم بك التي شغل سعد الله الجابري فيها وزارة الداخلية، ثم الخارجية بينما كان هاشم الأتاسي رئيسا للجمهورية أما إبراهيم هنانو فكان قد توفي 1935.
وهكذا تضاعف العبء على سعد الله الجابري في قيادة الحركة الوطنية نحو توكيد الاستقلال والحفاظ على حقوق الشعب وعلى الوحدة الوطنية؛ لكن الطابع المتوتر في تعاملات الفرنسيين مع الحركات الوطنية سرعان ما أنهى تجربة الحكم الوطني، وفرض توجهه التقليدي بتعطيل الحياة الدستورية وإبعاد الزعامات الوطنية عن الحكم واضطهادهم.
 

إلى المحيط الدولي

 

وهكذا نشأت في سوريا حكومة موالية لهذا الاحتلال على نحو ما ابتُليت فرنسا نفسُها بحكومة فيشي الموالية للاحتلال الألماني..
وقد كان سعد الله الجابري من الذكاء السياسي بحيث نقل القضية السورية إلى المُحيط الدولي، ووصل الأمر به إلى التحالف مع بريطانيا ومع حكومة فرنسا الحرة التي كان ديغول يقودها من المنفى بينما كانت حكومة فيشي بقيادة الجنرال بيتان قد استولت على مقادير الأمور في فرنسا تحت حكم (الاحتلال) الألماني. 
وهكذا بقي سعد الله الجابري في المنفى مُقاوما فلم يُعط للحكومة العميلة شرعية ولا فرصة للهناءة بسيطرتها، ولم يدخل فرنسا إلا مع دخول جيش حكومة فرنسا الحرة، ومع هذا الدخول أعلن استقلال سوريا مرة أخرى.
ومنذ ذلك الوقت يوليو/تموز 1943 وحتى وفاته 1947 أصبح سعد الله الجابري رجل دولة مسئولا منجزا، كما أصبح صورة مشرفة لسوريا في محيطها العربي والمجتمع الدولي على حد سواء
ومع انتخاب شكري القوتلي كأول رئيس لسوريا في 1943 أصبح سعد الله الجابري رئيسا للوزارة، لكن إخلاص الوزارة لوطنها دفع الفرنسيين إلى اعتداء جديد على سوريا، وفي ذلك الوقت كان سعد الله الجابري قد سار خطوات واثقة من أجل توكيد الوجود السوري عربيا ودوليا فاشترك مع النحاس باشا في مباحثات تأسيس الجامعة العربية التي انتهت بتوقيع بروتوكول الإسكندرية في أكتوبر 1944 قبل يوم واحد من إقالة وزارة النحاس باشا وقبل أسبوع من استقالة الجابري.

 

مناصب رفيعة

مع سعد الله الجابري بين مناصبه التنفيذية وبين عضوية البرلمان السوري عن حلب ورئاسة هذا البرلمان، وفي كل هذه المناصب فإنه لم يكن يتقاضى من مرتبه شيئا بل كان يوقع باستلامه ويتركه للعاملين البسطاء الذين هم في حاجة إلى ذلك المال.
تولى سعد الله الجابري رئاسة وزارة سوريا مرتين:
•    الأولى (19 أغسطس/آب 1943- 14 أكتوبر/تشرين الأول 1944) مواكبا بهذه الأربعة عشر شهرا الأخيرة من وزارة النحاس باشا الخامسة في مصر
•    والثانية (أول أكتوبر 1945 – 16 ديسمبر/كانون الأول 1946) مواكبا بهذا وزارتي النقراشي الأولى وصدقي باشا الثالثة في مصر.
وفيما بين هاتين الفترتين في رئاسة الوزارة كان سعد الله الجابري رئيسا لمجلس الشعب السوري (14 أكتوبر 1944-15 سبتمبر/أيلول 1945)..
وقد شهدت رئاسته للمجلس النيابي السوري حادثة تدل على ذكائه الحاد فقد علم بنية الفرنسيين قصف جلسة البرلمان في 29 مايو/أيار 1945 فاستبق خطتهم بفض جلسة البرلمان قبل انعقادها..
وبلغ الغيظ مداه بالفرنسيين فقرروا القبض عليه لكنه تمكن من الهرب في سرعة بالغة حيث صحب مطران روسيا الذي كان يزور دمشق في سيارته إلى بيروت ومنها إلى حيفا، وهناك استعدى الحكومة البريطانية في لندن فقررت بريطانيا التدخل في سوريا وإجلاء الفرنسيين عنها وهو ما عُرف بعد ذلك بعيد الجلاء في 17 أبريل 1946.
توفي سعد الله الجابري يونيو 1947 بعد بضعة شهور قضاها في حلب مريضا فقد كان قد أصيب بالتهاب الكبد الوبائي أثناء سجنه، وعاوده المرض في واحد من اجتماعات الجامعة العربية وهو في مصر فبقي للعلاج لكنه آثر أن ينتقل إلى مسقط رأسه حيث قضى الشهور الأخيرة من حياته.
من العجيب أنه توفي في نفس العام وفي نفس العمر الذين توفي فيهما رمز من رموز العمل الوطني والسياسي في مصر وهو محمد صبري أبو علم باشا (1893- 1947).
كرمه وطنه بأقصى مشاعر الحب والتكريم والوفاء وقد أُطلق اسمه على أكبر ميادين حلب وشيٌعت الجماهير جثمانه بمشاركة الوفود العربية وجميع الرسميين السوريين.
 

كان رثاء سعد الله الجابري ميدانا لتنافس الشعراء السوريين، وقد اقترحت ذات مرة أن تُدرس في مقرر الأدب قصيدتا الشاعرين بدوي الجبل وعمر أبو ريشة المطولتان في رثائه معا من باب الموازنة بين الشعراء.  
وقد رثاه الشاعر عمر أبو ريشة 1910-1990 بقصيدته الخالدة التي تعد من روائع الشعر العربي التي لم يرث أبو ريشة أحدا من العرب المعاصرين بمثلها، وقد ألقاها في الذكرى الأولى لوفاته، وقد بلغت هذه القصيدة أكثر من سبعين بيتا، حفلت بالحب والتقدير والإعجاب والاعتذار فقد كان عمر أبو ريشة كان من خصومه السياسيين لا من أتباعه، وقد قال في تلك القصيدة:  
هيكل الخلد لا عدتك العوادي / الأقاحي أنت إرث الأمجاد للأمجاد
بوركت في هواك كل صلاة /صعدتها حناجر العّباد
منك هبت سمر الرجال وأدمت /حاجب الشمس بالقنا المياد
والمروءات كل ما حملتها /البيد في طول سيرها من زاد
هتفت بالجهاد حتى تشظّى/ كل تاج على صخور الجهاد
وإليك انتهى مطاف علاها / دافق الخير مشرق الإسعاد

وقد أشار الشاعر عمر أبو ريشة في هذه القصيدة إلى ما كان بينهما من اختلاف سياسي اندفع معه أبو ريشة إلى الهجوم غير المبرر على سعد الله الجابري فقال:
سعد يا سعد إنه لنداء من حنين، فهل عرفت المنادي؟
ربما غاب عن خيالك طيفي بعد طول الجفا وطول البعاد
أذهلتني عنك انتفاضة روحي في سماء علوية الأمداد
فترنحت أحسب السحب تهوي تحت مهدي والنجم فوق وسادي
أنا يا سعد ما طويت على اللؤم جناحي ولا جرحت اعتقادي
شهد الله ما انتقدتك إلا طمعا أن أراك فوق انتقادي
وكفى المرء رفعة أن يٌعادى في ميادين مجده ويعادي

ورثاه الشاعر العربي الكبير بدوي الجبل 1900- 1981 بإحدى روائعه، وهي القصيدة التي استهلها بقوله:
سأل الصبح عن أخيه المفدى/ أيها الصبح لن تشاهد سعدا 
غيّب الدهر من سيوف معدٍّ/ مشرفياً حمى وزان معدّا
كلما عارضوا الصوارم فيه / كان أمضى شبا وأصفى فرندا
وفيها يقول: 
من كسعد وللشباب هواه     / قدرة تتعب الخيال وزهدا
يا صفيّ الأحزان تسقي البرايا/ كأسها مرّة وتسقيك شهدا
رضيت نفسك الهموم رفيقا/ اريحيّا على الشدائد جلدا
بورك الهمّ عبقريّا جوادا    / لا كهمّ أعطى قليلا وأكدى
قل لمن يحسد العظيم ترفّق/ إنّ خلف الأمجاد همّا وسهدا
وفيها يقول أيضا:
من كسعد إذا الملاحم جُنّت/ وتلقى حد من الهول حدا
وعلى راية الشآم كميٌ / يقحم الدارعين أشقر نهدا
 ويقول أيضا:
أين سعد ولن ألوم الليالي /وهب الدهر غالياً واستردا
أي باك إذا بكيت لسعد /إن بكى السيف حده ما تعدى
لو رأى هذه الدموع الغوالي/ لبكى رحمة وحيا وفدى
غاب سعد عن العيون وما غـ /ـاب ضياء يهدي القلوب فتهدى
ثورة في الحياة والموت / جلّت ثورة الحق أن تقرّ وتهدا

أما شاعر العاصي بدر الدين الحامد فقد رثاه بقصيدة قال فيها: 
أأنت في القبر لا تلوي على أحد / أم تلك دنيا طواها الموت في جسد
وقفت أبكيك والذكرى تخامرني / حتى كأنك في عيني وفي خلدي
هذا مصابك يا سعد الله الجابري ليس له / روح من الصبر أو ثوب من الجلد
مصارع الخلق في شتى مظاهرها / يروّع الأرض منها مصرع الأسد
يا راحلا لم يخلّف بعده ولداً/ ذكراك بالحمد فوق الأهل والولد
يفنى الزمان وما أبقيت من أثر/ مخلد الصنع مرفوع على عَمَد
لم تلق بالاّ إلى الدنيا وزخرفها / ولم ترد متعاَ من لذة ودَدِ
إن تمس في الترب مدفوناً فقد / دفنت يداك ما استعمر الطاغي إلى الأبد

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه