إنسانيات محمد

خالد محمد خالد مفكر وأديب كبير، قلمه سيال، ولغته رقراقة، عالية سامقة، وبخاصة عندما يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أبدع قلمه في أكثر من كتاب، مثل: رجال حول الرسول، وكما تحدث الرسول، وعشرة أيام في حياة الرسول، وغيرها، وأروع ما في خالد رحمه الله أنه يتناول جوانب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتبه إليها أحد، ومن أهم كتبه في هذا الباب كتابه: (إنسانيات محمد)، فقد اهتم كثيرون في كتاباتهم في السيرة بغزواته، وحروبه، بينما اهتم خالد في كتابه هذا بالجانب الإنساني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
خالد محمد خالد رجل قلبه يمتلئ عاطفة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنظرة سريعة لإهداء خالد للكتاب، يعلم القارئ كم الحب لهذا الرسول العظيم، يقدم خالد إهداءه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
يا من جئت الحياة، فأعطيت ولم تأخذ..
يا من قدست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان.
يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع.
يا من هيأك تفوقك لتكون سيدا (فوق) الجميع، فعشت واحدا (بين) الجميع.
يا من أعطيت القدوة، وضربت المثل، وعبَّدت الطريق.
يا أيها الرسول، والأب، والأخ، والصديق، إليك أهدي هذه الصفحات في حياء من يعلم أنه يجاوز قدره بهذا الإهداء.
 قسم خالد كتابه إلى خمسة أقسام، متناولا فيها بعض الجوانب الإنسانية، فقد كان صلى الله عليه وسلم: الرحمة مهجته، والعدل شريعته، والحب فطرته، والسمو حرفته، ومشاكل الناس عبادته.

الرحمة مهجته:

يتناول خالد محمد خالد بعض جوانب رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نشأ يتيما، ويرى أن الحكمة من جعله يتيما، أن الله جعل له اليتم مهدا، وحين كان أترابه يلوذون بآباء لهم، ويمرحون بين أيديهم كطيور الحديقة، كان (محمد) يقلب وجهه في السماء..
لم يقل قط يا أبي، لأنه لم يكن له أب يدعوه، ولكنه قال كثيرا، وقال دائما: يا ربي. 
الرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مجرد شعور، بل هي أقوال، وأفعال، ومشاعر تملأ جوانبه كلها، فقد قال: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، وقد كان أول مظاهر رحمته أنه لا يشرع للناس إلا ما كان فيه رحمة ويسر بهم، فقد خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في رمضان، حتى بلغ موضعا يدعى كراع الغميم فصام، وصام الناس، ولما رأى بعض الناس قد شق عليهم الصيام بسبب وعثاء السفر دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، وما قيل له: إن بعض الناس لا يزال صائما. قال: أولئك العصاة”.
أقبل رجل يهرول الخطى إلى رسول الله، يغشاه الفرح، وتغمره البهجة، إنه قادم يبايع نبيه على الهجرة معه وعلى الجهاد في سبيل الله تحت رايته.
فاسمعوا حوار (محمد) له:
هل من والديك أحد حي؟؟ قال الرجل: نعم.. كلاهما حي.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما.
وهذا رجل آخر، جاء إلى محمد يسعى ويقول: يا رسول الله، جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان. فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما.
وثالث يسأل: يا رسول الله، إني أشتهي الجهاد، ولا أقدر عليه، فيقول له: هل بقي من والديك أحد؟ يقول الرجل: نعم، فيقول له: قابل الله في برهما، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج، ومعتمر، ومجاهد.
إن بسمة تعلو شفتي أب حنون، وتكسو وجه أم متلهفة، لا تباع عند (محمد) بثمن، حتى حين يكون الثمن جهادا يثبت دعوته، وينشر في الآفاق البعيدة رايته.
وهكذا رأيناه يرد إلى والدين دامعين، ابنًا لهما جاء يبايعه على الجهاد، وسمعناه يقول له تلك الآية المبهرة: “ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما” إن رحمة النفس تتم عند (محمد) برحمة الوالدين وبرهما، لأنهما مصدر هذه النفس ووعاؤها.
ورحمته صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأحياء، سواء في تشريعه لهم، أو في معاملته ورحمته بالعصاة، ممن يقعون في معصية الله عز وجل، فيحنو عليهم بخفض جناح الرحمة لهم، وشملت رحمته الإنسان والحيوان، والحي والميت كذلك.

العدل شريعته:

كان العدل شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ينطق به، ويتحرك له، ويسعى لتحقيقه بكل وسيلة، فالظلم يتخذ أشكالا شتى، فهناك ظلم بالفعل، وهناك ظلم بالقول، وهناك ظلم بالشعور.
قد تظلم الآخرين بأفعال تأتيها.. وقد تظلمهم بكلمات تقولها.. وقد تظلمهم بمجرد مشاعر كريهة تنطوي عليها نفسك.. ومحمد صلى الله عليه وسلم يحيط بهذه الأشكال جميعا في ذكاء عظيم، وفي ولاء للعدل أعظم.
ذات يوم تقدم منه أعرابي في غلظة، وسأله مزيدا من العطاء، وقال: اعدل يا محمد. 
والطمأنينة التي دفعت الأعرابي إلى هذا الموقف المسرف في الجرأة.. هذه الطمأنينة وحدها، تصور عدل (محمد) أصدق تصوير.
فما كان الأعرابي قادرا على أن يقول مقالته تلك، لو كان (محمد) قد أقام بينه وبين الناس سورا من التعاظم، والكبرياء، وبث في نفوسهم الخشية منه، والرهبوت!!
لكن محمدا حطم كل معالم التمايز بينه وبين الناس. 
وحين دخل عليه رجل غريب، يختلج، بل يرتجف من هيبته، استدناه، وربت على كتفه في حنان، وفرط تواضع، وقال له عبارته المشهورة:
“هوِّن عليك.. فإن أمي كانت تأكل القديد بمكة” أجل من هنا يبدأ الفهم الصحيح لعدل (محمد)..
فالنبي صلى الله عليه وسلم يحرص على تحقيق العدل، سواء في حفظ دماء الناس، أو أموالهم، أو أعراضهم، وعلى مستوى الكلمة التي قد تجرح الإنسان، أو تمس سمعته وعرضه، ويبدأ بنفسه ليعطي نموذجا للحرص على العدل، فذات يوم صعد المنبر، وراح يخطب في الناس، قائلا لهم:
“من كنت أخذت له مالا، فهذا مالي، فليأخذ منه، ومن كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليقتد منه”. 
إن الإنسان العظيم يعلم أنه لم يأخذ مال أحد، ولا جلد ظهر أحد. ولكنه التحري المطلق للعدل، والرهبة البالغة من الظلم.
وهكذا يطوف بنا خالد محمد خالد رحمه الله، في جوانب كثيرة من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على العدل، وتحقيقه، بكل جوانبه المادية والمعنوية، وكذلك الجوانب الإنسانية الأخرى لديه صلى الله عليه وسلم، فتناول الحب في حياته، وكيف كان فطرة لديه، وكيف كان يعيش لإنهاء أزمات الناس ومشكلاتهم، ويتعبد لله عز وجل بحلها.
إن الجانب الإنساني في حياته صلى الله عليه وسلم مهم، ويحتاج من الدارسين للسيرة النبوية لإبرازه، وهذا الكتاب تحديدا لخالد محمد خالد يحتاج لترجمته إلى لغات الدنيا الحية، فهو خير معبر عن جانب مجهول من حياة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه يتناول: (إنسانيات محمد)..
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه