موتوا!

بين فترة وأخرى نستيقظ فزعاً على أخبار تتعلق بإلقاء القبض على زميل أو أكثر، ممن شاركونا حلم الحياة في وطن نظيف، وقرروا الانخراط في العمل السياسي والمشاركة في أشرف حدث مرت به بلادنا في عصرها الحديث، وأعني قطعاً ثورة الخامس والعشرين من يناير.

 لا أدري يقيناً لماذا يلح على ذاكرتي في كل مرة أواجه فيها هذا الموقف الذي يعصف بكل محاولات بث الطمأنينة على بقية رفاق الدرب الباقين في الداخل المصري اضطرارا أحيانا وقوة وبأسا وعزيمة لا تلين في كثير من الأحيان، مشهد واحد من فيلم يوم الاستقلال الذي شاهدته في منتصف التسعينيات يمسك كائن فضائي جاء لغزو الأرض برقبة إنسان يستخدمه كلسان يخاطب به الرئيس الأمريكي حيث تقع الأحداث.

لا سبيل للتعايش

 ويبدأ الرئيس في محاولة التفاوض مع الكائن الفضائي بغرض فهم ما يرمون إليه من مجيئهم إلى الأرض هل هناك مثلاً طريقة لإيجاد سبيل للتعايش المشترك؟

ما الذي تريدون منا أن نفعله؟

وهنا تأتي إجابة الفضائي الحاسمة: موتوا.

هكذا مباشرة وبدون أدنى تردد لا سبيل إلى التعايش المشترك نطلب منكم الموت ولا سبيل لوجودنا في وجودكم وإذا بحثتم عن سبيل للتعايش المشترك فهذا بعينه ضياع الوقت والجهد.. هكذا يريد أن نفهم الكائن الفضائي.

ربما كان استدعاء المشهد قسراً إليّ ذاكرتي هو إصرار أجهزة الأمن على تعقب كل من اشترك يوماً في ثورة يناير والزج به في غياهب السجون، حتى وإن كان تحت وطأة سحق حلمه قد قرر عدم الاشتغال به نهائياً العمل السياسي الذي تم فعلاً قتله، وحتى إن كان شغله الشاغل محاولة الإمساك بتلابيب حياته التي فاته منها سنوات طوال كراً وفراً في حلم الثورة الوردي البراق، الذي لم ننل منه الا أطلال ذكريات الميدان العزيزة على نفوسنا والمحببة إلى قلوبنا والمداوية لآلام أنفسنا بعبير الذكري.

أتخيل دائماً التحقيق مع زملائي على أنه إعادة تجسيد للمشهد الخيالي من فيلم الخيال العلمي الذي-ربما- لم يتخيل مؤلفة أن هناك على الكوكب بالفعل من يتعامل مع الآخرين بمنطق موتوا فلا أمل لكم في البقاء في وجودنا.

كيل الاتهامات

يقف الضابط أمام من يقع تحت يده، فلا يتورع في كيل الاتهامات التي يعرف هو نفسه أنها في مجملها غير صحيحة والغرض الوحيد هو توريط من يقع تحت يده فيها، ليلقي به في غياهب السجون سنوات وسنوات انتقاما وتشفياً فيمن تجرأ يوماً على حلم الحياة في وطنه مرفوع الرأس، مساوياً بين رؤوس الجميع، وتلك الجريمة الكبرى في نظر الضابط الذي تعلم أنه لا يماثله غيره من الناس، وانه فوق القانون وفوق رقاب البشر، ولذلك فهؤلاء الذين انتفضوا رفضاً لهذا المنطق لا يستحقون الحياة خارج السجون، فمن نكون نحن حتى نتساوى في الحقوق والواجبات مع من ورثوا سلطاتهم عن آبائهم، أو دفعوا ثمن سلطتهم أموالاً طائلة.

منطق الضباط في بلادنا المنكوبة هو في حقيقته دفاع عن أسلوب حياة لا يتصورون غيره، هم طبقة أرستقراطية تم استبدال أرستقراطية باشوات العهد الملكي بهم منذ حركة الضباط في يوليو ١٩٥٢، لتبدأ الأمور في التحول والتشكل من حركة ضباط هدفهم القضاء على الإقطاع وإعادة توزيع الثروة المعنوية هكذا قالوا، إلى ضباط يورثون مناصبهم إلي أبنائهم بعد سنوات ليست بعيدة عن الحركة الأولي ومن شعارات بالحرية والكرامة، إلى استخدام سلطتهم لدهس الكرامة واغتيال الحرية من ضباط من عامة الشعب، إلى طغاة لا يرون الشعب إلا تحت أقدامهم وأقدام أبنائهم من بعدهم.

تقاطع خطوط المصالح

والأبناء الذين ولدوا فوجدوا سلطة آبائهم تُخضع من حولهم لا يتصورون أن هناك حق عليهم لأحد، ولا كرامة لغيرهم اذا ما تقاطعت خطوط المصالح أو اقتربت خطوط التماس مع الأغيار ولو في إشارة مرور عابرة، وتزداد النظرة الفوقية من طبقة الباشوات -هكذا أطلقوا علي أنفسهم- مع الزمن جيلاً بعد جيل، ولا مجال للتراجع عن أسلوب الحياة فوق أي قانون، ولا مجال للتراجع عن مساحات النفوذ بدعوى المساواة بين الجميع، وانقسام المجتمع-الأغيار-على نفسه فرصة عظيمة لاستمرار استمراء استعباد البشر والتحكم في رقابهم، لا أزعم امتلاك وسيلة للتعايش بسلام بين طرف يمتلك السلطة والثروة والنفوذ، وطرف آخر امتلك رغبة في الدخول في صراع مع طواحين الهواء الوهمية بدلاً من التبصر لطبيعة وحجم كارثة حياته، وكل ما أراه هو الحزن علي رفاق النضال المتساقطين واحداً تلو الآخر سواء رضوا بالهزيمة أو حتى استسلموا لها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه