“الصفقة التركية” في قضية خاشقجي

 

 

بعد نحو 5 أسابيع على اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول، لاتزال تركيا ثابتة على رواية واحدة لهذه الجريمة الوحشية التي تهدد بتغيير جدي في إدارة السلك الدبلوماسي في العالم أجمع، ومع الأسف لاتزال جهات سعودية تنشر للرأي العام العالمي روايات تلو الروايات، بعضها يتناقض مع بعضها الآخر بشكل كبير، وليس أولها الرواية المضحكة التي لا يمكن أن تصدر عن دولة، كما وصفها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

من الثاني من تشرين الأول/أكتوبر الماضي لم تغيّر تركيا من حكمتها في التعامل مع هذه القضية التي هزت العالم، فلم تقم بالتهور ولم يلق مسؤولوها الاتهامات جُزافاً، بل كان تعاملهم مع الأمر بهدوء شديد ونصح كبير للسلطة العليا في المملكة العربية السعودية ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بانتظار انتهاء المدعي العام التركي من تحقيقاته الجنائية التي مازالت مستمرة، والتي تأخرت بسبب العراقيل التي تسبب فيها الفريق الأمني السعودي الموجود في إسطنبول.

ولكن الأكيد أنه مهما حاول البعض عرقلة التحقيق وطمس الأدلة والحقائق فإن الأجهزة الأمنية التركية قادرة على كشف المستور وإظهار الحقيقة بالأدلة الدامغة حتى لو استغرق ذلك مزيدا من الوقت، كان يمكن اختصاره لو حصل تعاون سعودي جدي وواسع مع مجريات التحقيق التركي.

المزيد من الأدلة

نعم تركيا تمتلك حاليا الكثير من الأدلة حول الوقائع الكاملة لجريمة اغتيال خاشقجي، أي ما قبل وأثناء وما بعد تنفيذ الجريمة، ولكنها تبحث عن المزيد من هذه الأدلة من خلال التحقيق الجنائي الخاص بها، والذي لا تشترك به أي فرق أجنبية أخرى، تحتاج تركيا للمزيد من الأدلة كي يكون تقرير مدعيها العام كاملا متكاملا، لا يعطي المتهمين ـ من القاعدة إلى رأس الهرم ـ فرصة لإنكار اشتراكهم بهذه الجريمة، ولا يعطي أي طرف بالعالم فرصة ليدافع عن القتلة.

مع انتظار انتهاء التحقيقات الجنائية، يمكن القول إن الهدوء التركي في التعامل مع قضية الشهيد خاشقجي، وحكمة الرئيس في هذا الموضوع، يصبان في مصلحة عقد “صفقة”، ولكن ما هي طبيعة هذه الصفقة؟!

نعم “صفقة” ولكن ليس بالمعنى الذي يقصده المتسرعون بالحكم من جهة، والمصطادون بالماء العكر من جهة أخرى، أي أن “تقوم تركيا ببيع دماء خاشقجي ووضع القضية في أدراج القضاء وإسكات الإعلام عنها، مقابل مصالح ضيقة تستفيد منها أنقرة هنا أو هناك”.

هذه الصفقة بهذا المعنى لم ولن تفكر بها تركيا ـ وهذا واضح لمن يفقه معاني التصريحات التركية الرسمية ـ وأي تفكير بهذه الصفقة سيخسرنا هنا في تركيا قيمنا الإنسانية وأخلاقنا الإسلامية ومصداقيتنا في العالم العربي والعالم أجمع.

الصفقة المأمولة

“الصفقة” التي تسعى تركيا لعقدها قبل أن تقوم هي بفضح كل الأمور والحقائق ـ في الوقت الذي تحدده هي وليس أحدا آخر في هذا العالم ـ تتمثل بنقاط واضحة:

النقطة الأولى: أن يقوم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ دون غيره في السعودية ـ بقيادة التحقيق الجدي الذي يفضي في نهاية الطريق لكشف كل من أمر وساهم وسهل وارتكب هذه الجريمة، وبهذا تعود لمقام خادم الحرمين الشريفين سلطته الحقيقية أمام الداخل والخارج.

النقطة الثانية: لا تريد تركيا أن تعطي بعض الساعين للاصطياد بالماء العكر وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فرصة لابتزاز كيان الدولة السعودية واستنزاف الشعب السعودي والإضرار بهيبة السعودية المرتبطة بهيبة المسلمين في العالم، وهذه النقطة في غاية الإيجابية التركية تجاه السعودية، فهل يتلقاها خادم الحرمين الشريفين والشعب السعودية بإيجابية؟

كان باستطاعة تركيا أن تستغل قضية خاشقجي لابتزاز السعودية ككيان وكشعب كما يفعل ترمب، ولكنها لم تفعل ولا أظن أنها ستفعل في المستقبل، فتركيا لا تتعامل بهذه العقلية المريضة مع الدول الإسلامية، ونكرر السؤال هل يتلقى خادم الحرمين الشريفين والشعب السعودي هذا الأمر بإيجابية؟

النقطة الثالثة: تأتي مباشرة بعد كشف ومحاسبة كل من أمر وساهم وسهل وارتكب جريمة اغتيال خاشقجي، بتعاون جدي وكامل من الملك سلمان مع الرئيس أردوغان، وتتمثل بفتح صفحة جديدة بالعلاقات بين أنقرة والرياض، صفحة قوامها حل النقاط الخلافية بينهما.

نقاط خلافية كثير منها ليس خلافات مباشرة بين البلدين، بل خلافات في وجهات النظر وطريقة التعامل مع ملفات أخرى وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.

وهنا وبعد المحاسبة الكاملة وفتح صفحة جديدة، تريد تركيا رفع الحصار عن قطر، وأن تصطف السعودية بشكل جدي وقوي معها ضد صفقة القرن التي ستـُباع بموجبها القدس المحتلة وفلسطين كلها، وأن توقف السعودية دعمها المالي والمعنوي والإعلامي للتنظيمات الإرهابية شرقي الفرات في سوريا، وأن تنهي الرياض حربها غير المجدية في اليمن، وأن تتعاون بشكل جدي لإنهاء حالة اللامنطق وحالة الفوضى في مصر اللتين يعاني منهما الشعب المصري من الانقلاب العسكري على الرئيس الشرعي المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي.

كما تريد تركيا أن تقف السعودية بقيادة الملك سلمان معها لدعم حل سياسي شامل في سوريا يضمن مطالب الشعب السوري التي خرج لأجلها في ثورته، فضلا عن التخلي عن تحالفات لم تأت بأي خير على السعودية وشعبها وخاصة ذاك التحالف المعقود في أبراج البزخ والترف المطلة على إيران.

تحالف اسلامي

هذه بعض النقاط التي تريد تركيا من السعودية أن تقوم بها، وبالتالي سنصبح أمام تحالف إسلامي حقيقي في المنطقة، لن يستطيع بعده ترمب وغيره من ابتزازنا والاستهزاء بنا.

تركيا تسعى لذلك حتى قبل استشهاد جمال خاشقجي بهذه الطريقة البشعة المروعة، ولكن عسى ولعل أن تكون دماء هذا الرجل سببا لنور ساطع يعيد السعودية لحضنها العربي الإسلامي، وينهي مآسي شعوبنا في سوريا واليمن ومصر والعراق وليبيا.

ولكن كل هذا وكل هذه “الصفقة” ـ وصحيح أنها مهمة لتركيا ـ ولكن أنقرة لن تقبل بها إلا بعد أن يقوم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بكشف ومحاسبة كل من أمر وسهل ونفذ عملية اغتيال خاشقجي.

وفي حال لم يقدم الملك سلمان على هذه الخطوة، فإن تركيا ستجد نفسها في نهاية المطاف مضطرة لكشف الحقيقة الكاملة الواضحة الشافية بنفسها، وقد تتجه الأمور للمجتمع الدولي وبالتالي لمزيد من استهداف واستنزاف السعودية وشعبها من هذا المجتمع، الذي يعاني أصلا من ازدواجية في معاييره ويرغب بانتهاز الفرص لضرب دولنا وشعوبنا في سبيل مصالحه فقط لا غير، وإلا فأين هذا المجتمع مما يحصل في سوريا واليمن ومصر والعراق وليبيا وميانمار وأفغانستان وغيرها من دولنا؟!

لو كان زميلنا خاشقجي على قيد الحياة وقيل له أن مماتك سيحقق هذه “الصفقة” التركية أتوقع أنه لم يكن ليتردد أبدا بأن يقبل أن يموت فداء لهذه الشعوب المقهورة ولهذه الدول المدمرة بأيدي بعضنا قبل أيدي الآخرين.

الكرة في ديوان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، إن ركلها وسدد هدفا نظيفا بها سنرى المحاسبة للجميع دون استثناء، وسنرى نورا جديدا في منطقتنا، أما إن ركلها وذهبت خارج المرمى فإننا سنكون أمام مزيد من الأزمات على السعودية وعلى كل المنطقة، ويكون حال تركيا يومها “اللهم قد بلغت اللهم فاشهد”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه