كتاب الثورة”2″| الجنرال الأول

 

في سياق الانتخابات الرئاسية المصرية 2012م، نُشِرَت صورة من حملة المرشح “أحمد شفيق” يظهر فيها معه على المنصة لتأييده كل من أرملة الرئيس أنور السادات “جيهان” وابنة الرئيس جمال عبد الناصر “منى” فى تعبير موجز بليغ عن دولة العسكر التي كان إسقاطها، ومازال، هو الهدف الأول للثورة في مصر*.

العسكر كانوا جميعا على المنصة، يدا لم نرها واحدة إلا في مواجهة الشعب وللقضاء على ثورته، وإلا فإن الاتهامات المتبادلة بين أسرتي السادات وعبد الناصر ملأت الصحف وانتقلت إلى قاعات المحاكم، وكذلك الأمر بين أسرتي السادات وحسني مبارك، الذي لم تغب أسرته عن مهرجان تأييد شفيق إلا خوفا عليه من أن يحمله الناخبون وزر جرائمها، وعلى أية حال كان مبارك وولداه في قفص الاتهام، ومع ذلك لم “يبخل” مبارك على تابعه بالتأييد، فكتب في الحلقة الأولى من يومياته يبدي اقتناعه بقدرات أحمد شفيق، ويؤيد ترشحه لرئاسة الجمهورية*.

نسيتْ “هدى عبد الناصر” خصومتها القضائية مع بنت السادات، وتجاوز “عفت السادات” خلافه مع أرملة عمه (السيدة جيهان السادات) واتفق الجميع على الوقوف صفا واحدا مع “أحمد شفيق” مرشح دولة العسكر، الذي اتفقوا على وصفه ـ ولمزيد من السخرية ـ بـ “حامل لواء الدولة المدنية” حسب التعبير الذي ردده الجميع بعد أن صكته “هدى عبد الناصر” في مقال نشرته “الأهرام”! قبل أن نراها ـ بعد الانقلاب ـ تنقل لواء الدولة المدنية من “شفيق” إلى “السيسي” الذي تقدمت في تأييده خطوة أبعد، مدعية عثورها بين أوراق أبيها على ما “يسقط الجنسية” عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، وهما الجزيرتان اللتان تمنحان مصر السيادة المطلقة على مدخل خليج العقبة، متجاوزة أن هذه السيادة كانت أحد الأسباب وراء دخول “عبد الناصر” حربين، تلقى فيهما هزيمتين عسكريتين، عامي 1956 و1967م*.

مصالح دولة العسكر

هذه هي دولة العسكر إذا: مواجهتها الحقيقية مع الشعب، وأية خلافات أخرى تهون، سواء أكانت بين أفراد عائلة جنرال واحد، أو بين عائلتين، أو حتى مع طرف خارجي (الكيان الصهيوني) هذا كله يهون، والخلافات كلها قابلة للتجاوز، أو على الأقل التأجيل، حفاظا على مصالح دولة العسكر، التي تحتكر الثروة كلها والقرار كله، والتي لا تخلص لشيء إلا لنفسها، حتى الجنرال الذي يقودها لا تخلص له إلا بقدر بقائه قائدا، وبقدر ما يفيد هذا “الإخلاص” في الحفاظ على الدولة.

لا عجب ـ إذا ـ أن يحصل مؤسس دولة العسكر “محمد علي” على حصة وافية من هذا الإخلاص، حتى بين الناصريين أنفسهم، أو بين هؤلاء الذين لا ينتسبون منهم إلا لحكم العسكر، لا “لحقوق الفقراء” ولا “لعداوة الاستعمار والصهيونية” ولا لأية شعارات أخرى فرغها الانقلاب من محتواها، وأظهر الذين يواصلون ترديدها من أتباعه مسوخا، مجرد مسوخ أو أقل، فلا هم يستثيرون الشفقة ولا هم يبعثون على الضحك. وهؤلاء وصل عداؤهم للثورة إلى التمترس خلف “محمد علي” وجعلتهم يريقون في تمجيده حبرا أكثر ـ ربما ـ مما أراقوه في لعنه، وأصبحوا يذكرونه ـ تقليديا ـ باعتباره “باني مصر الحديثة” ناسين أن “عبد الناصر” كان يعاقب ـ فورا وبأشد العقاب ـ من يردد هذه “الفرية” عن “عدوه” الذي لم يترك فرصة لتلويثه وإدانته إلا وانتهزها، ومن ذلك تسميته حكم محمد علي وأسرته بـ”العهد البائد”، وقوله “الأسرة المالكة الفاسدة، أسرة محمد على” في خطابه الذي ألقاه في عيد العمال 1966 بمدينة المحلة الكبرى، وقوله وهو يقدم “الميثاق الوطني” من جامعة القاهرة 21/5/1962 “وكانت الأسرة المالكة الدخيلة تحكم بالمصلحة والهوى، وتفرض المذلة والخنوع”. فما الذي جعل “الدخيل” بانيا لمصر؟ وما الذي جعل الإشادة تحل محل اتهامات الفساد والحكم بالمصلحة والهوى وفرض المذلة والخنوع؟

سمسار سلاح

الإجابة هي أن دولة العسكر تقف ـ في مواجهة الثورة ـ على “نقطة تحول” أو على “سن السونكي” الذي قال “ميرابو”* إن الطاغية لا يمكنه أن يقف عليه طويلا. وعلى هذه الحافة اضطر حكم العسكر إلى التعري تماما خالعا مزاعم البطولة وادعاءات الوطنية، لنراه ـ كما كان منذ البداية ـ سمسار سلاح خارج الحدود ومهرب مخدرات عبرها. نراه، كما وصفه “د. جمال حمدان” في الجزء الرابع من “شخصية مصر” قمعا للشعب وجبنا أمام الأعداء، حيث يقول: “كانت مصر مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل. وبالتالي كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب. ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم. وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيرا ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي أنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج، والحل العسكري مع الشعب في الداخل. فكانت دولة الطغيان كالقاعدة العامة: استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب”.

وفي هذه المرحلة إما أن تسقط دولة العسكر، كما نريد، أو تنجح هي في خلق بيئة قيمية أشبه ببيئة “سوق العبيد” حيث لا قدر إلا للقوة ولا قيمة إلا للمال، وهي بيئة تمكنها من الانتقال إلى حيث لن يبقى شيء مما نحب ولا مما نعتنق. باختصار إما أن نسقط دولة العسكر، أو تتمكن هذه الدولة من إسقاط وطننا، مستعينة بحشد قواها ورموزها ووسائلها، منذ مؤسسها الجنرال الأول “محمد علي”.

***

بعد أن نجح الشعب المصري في هزيمة الجيش الفرنسي وإجباره على الجلاء، ونجح أيضا في فرض إرادته على السلطان العثماني وأجبره على النظر إلى مصر “بعين الإصلاح”، تولى “محمد علي” حكم مصر، في إطار استقلال “مكتوم ومشوش” عن الدولة العثمانية، بعد حركتين احتجاجيتين:

  • الأولى: في العام 1804 م ضد الزعيم المملوكي “عثمان بك البرديسي” الذي كان حليفا لمحمد علي، لكن الأخير حرض الجنود الألبان على مطالبته برواتبهم المتأخرة، وليرضيهم “البرديسي” تورط في فرض ضرائب باهظة على سكان القاهرة، الذين يصف “الجبرتي” احتجاجهم عليه قائلا “فعند ذلك قاموا على ساق وخرجت نساء الحارات وبأيديهن الدفوف يغنين ويقلن: إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي”. ولم يكن أمام “البرديسي” إلا الهروب بعد أن انضم حراسه أنفسهم إلى المحتجين.
  • والأخرى: بعد عام واحد، وكانت ضد الوالي العثماني “خورشيد باشا” الذي أراد تحصين نفسه من الجنود الألبان، فاستعان بالمغاربة، لكنهم أثاروا حنق الأهالي بالمبالغة في استعمال القسوة ضدهم، كما أن “محمد علي” حرض الجند ضده وجعلهم يطالبونه بـ”العلوفة” أي ثمن طعام خيولهم، ونجح في استمالة العلماء والمشايخ و”رؤساء الطوائف” أي قادة العمال وأصحاب المهن والحرف، فحاصر الجميع “خورشيد” في مقر الحكم بقلعة صلاح الدين، واستجاب السلطان العثماني لمطلبهم بعزله وتعيين “محمد علي” واليا بدلا منه في 9 من يوليو/تموز 1805م.
  • أغرت “حالة الفراغ” في مصر إنجلترا بتوجيه أسطول بقيادة الجنرال فريزر، قوامه 25 سفينة تحمل ما يزيد على 7 آلاف مقاتل إلى غرب الإسكندرية (منطقة العجمي) يوم 17 من مارس/آذار 1807، وبعدها بأربعة أيام، استولى الأسطول على الإسكندرية بسهولة بسبب خيانة حاكمها “أمين أغا” واستسلام حاميتها. وفي 29 من مارس/آذار وجه “فريزر” حملة برية قوامها ألفا مقاتل للاستيلاء على رشيد، فتصدى لهم أهلها بقيادة المحافظ “علي بك السلانكي” ومعه 700 جندي يوم 31 من مارس/آذار، وأوقعوا هزيمة فادحة بالإنجليز الذين بلغت خسائرهم ‏ 170‏ قتيلاً، و‏250 جريحًا، و‏120‏ أسيرًا لدى حامية رشيد‏. لكن الإنجليز أرسلوا جيشا آخر في 3 من أبريل/نيسان، حاصر رشيد، وضربها بالمدافع، وناوش أهلها‏ الذين ضربوا مثلا نادرا في الصمود، ونجحوا في إلحاق هزيمة فادحة أخرى بالإنجليز في 21 من أبريل/نيسان. وأرسل محافظ رشيد الأسرى ورؤوس القتلى إلى القاهرة في موكب وصفه “الجبرتي” قائلا: ” “فلما كان يوم الأحد 26 من المحرم سنة 1222 هـ أشيع وصول رؤوس القتلى، ومن معهم من الأسرى إلى بولاق، فهرع الناس إلى الذهاب للفرجة، ووصل الكثير منهم إلى ساحل بولاق وركب أيضا كبار العسكر ومعهم طوائف لملاقاتهم فطلعوا بهم إلى البر وصحبتهم جماعة العسكر المتسفرين معهم فأتوا بهم من خارج مصر ودخلوا من باب النصر وشقوا بهم من وسط المدينة… ورؤوس القتلى معهم على نبابيت، ولم يزالوا سائرين بهم إلى بركة الأزبكية”.
  • هكذا هزم المصريون الدولة الكبرى الثالثة في خلال ست سنوات، مع أن محمد علي لم يسهم في النصر إلا بالمتابعة من مقاعد المشاهدين، حيث كان مشغولا بقتال المماليك في الصعيد حرصا على حكمه ولو كان على حساب الوطن. كان الشعب يقاتل ـ وحده ـ جيش بريطانيا العظمى، وينتصر عليه، بينما حاكمه العسكري وجنراله الأول لا يهمه إلا تثبيت عرشه، وتأكيدا لهذه “اللا مبالاة الوطنية” فإن محمد علي بادر إلى استثمار النصر بأن عقد مع الإنجليز “معاهدة دمنهور” في 14 من سبتمبر/أيلول، متيحا لهم “الخروج الآمن مع أسراهم وجرحاهم، مؤكدا أنانيته المطلقة، وأنه لا يهمه من “النصر” لا هيبة الوطن ولا كرامته، بل ولا الوطن من أوله لآخره، إذ لا يهمه إلا ما يمكن أن يجنيه لصالح شخصه وسلطته، مغتصبا حق الشعب الذي ألحق بالإنجليز هزيمتين ساحقتين (مقابل الاستسلام المخزي للجيش الرسمي في الإسكندرية) ودفعهم للفرار، حتى إنهم بادروا بالرحيل بعد 5 أيام فقط من توقيع المعاهدة، ومغتصبا أيضا حق السلطان العثماني، الذي كانت مصر ولاية في دولته، وكان هو الوحيد الذي يحق له توقيع المعاهدات مع الدول الأجنبية. وهكذا استثمر محمد علي بطولة الشعب المصري ليفرض موقفا بدا فيه حاكما فعليا لمصر، وهو حبة الثلج الأولى التي راحت تتدحرج، مع تعاقب المواقف المشابهة، حتى أصبحت كرة كبيرة. وتقديري أن الاستفادة الكبرى التي حققها محمد علي من معاهدة دمنهور كانت تقديم نفسه باعتباره “حاكم مصر القادر على لجم شعبها والأفضل لتحقيق مصالح أوربا” فها هو يسيطر على الشعب الذي تغلب على كبرى القوى الدولية، ويهدر ذروة انتصاره، وينقذ إنجلترا من حضيض هزيمتها محافظا على أرواح من تبقى من جيشها، ومحررا أسراها من دون مقابل.
  • وعلى طريقة العسكر في “رد الجميل” شعر محمد علي بأن الشعب الذي عرف كيف يخوض معركة حقيقية ضد قوة كبرى وينتصر فيها أصبح خطرا على أطماعه في الاستبداد بالحكم، فقرر أن يزيحه من طريقه. وفي العام 1808 م انخفض منسوب نهر النيل، فشحت الغلال، وارتفعت الأسعار، وطالب العلماء محمد علي بعدم تحصيل الضرائب تخفيفا لمعاناة الشعب، لكنه ـ وبدلا من الاستجابة لهم ـ نهرهم، ثم أصدر أربعة قرارات هي السطر الأول في كتاب احتكار العسكر لثروات مصر، وحرمان شعبها منها، وهي:

1 ـ فرض ضريبة المال الميري علي الأراضي الموقوفة للملتزمين وأطيان الأوسية (نهب الأوقاف ومشاركة الملتزمين، وكانوا شبه ملاك للأرض، في إيراداتهم، وهو ما كانوا يعوضونه بدورهم على حساب الأجراء).

2 ـ الاستيلاء علي الأطيان التي لا يثبت أصحابها حجج ملكيتها (رفض محمد علي الاعتراف بإثباتات الملكية ما أسقط حقوق آلاف الملتزمين وأصبح هو “الملتزم الوحيد” أي المالك الحقيقي لكل أرض مصر الزراعية)

3 ـ إلزام الملتزمين بتقديم نصف فائض الالتزام ونصف صافي إيراد الأطيان (مقاسمة الملتزمين في مواردهم لحين الاستيلاء عليها بالكامل).

4 ـ فرض ضريبة تمغة علي المنسوجات والأواني والمصوغات (يمكنكم رصد بداية الانخفاض المستمر في قيمة العملة اعتبارا من تاريخ صدور هذا القرار).

ولو دققت في هذه القرارات لوجدت “الصيغة الأولى” لـ”قانون الغائب” الذي أصدرته سلطة الاحتلال الصهيوني للاستيلاء على أراضي الأوقاف والشهداء واللاجئين في العام 1950، ولاكتشفت أن الصهيوني ـ بحساب الوسائل والأهداف ـ ليس أكثر من نظام عسكري عنصري، لهذا تنهزم أنظمتنا ـ التي تشبهه بنيويا ـ في مواجهته، إذ لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالقوة، والصهيوني هو الأقوى. كما نرى ذهنية “الاستيلاء” و”المصادرة” وفرض الضرائب التي تحكم سلوك العسكر حتى اليوم.

  • كان إنفاذ هذه القرارات يتطلب موافقة نقيب الأشراف “عمر مكرم” حسب شروط التولية، التي جلس محمد علي على أريكة الحكم بموجبها (وجوب مراجعة نقيب الأشراف) وحين رفض عمر مكرم هذه القرارات، بل رفض الحديث بشأنها من حيث المبدأ، اتهمه محمد علي بأنه أدخل في دفتر الأشراف بعض الأقباط واليهود نظير بعض المال (على طريقة العسكر في الافتراء، لم يحدد لا أسماء ولا مبالغ وإنما مجرد عنوان ضخم لتهمة لا أصل لها، تثير غضب الناس، ألا يذكركم هذا بأحدهم أو بكلهم؟) وبناء عليه خلعه من نقابة الأشراف ونفاه إلي دمياط في العام 1809، مع تعيين “محمد السادات”. ولمزيد من العجب فإن “السادات” هو من كان عمر مكرم يثق فيه، لدرجة أنه اختار بيته محلا للقاء محمد علي، بعد أن دعاه لمقابلته، فرفض قائلا “إن كان ولا بد، أجتمع به في بيت السادات”.
  • على طريق الاستبداد بالحكم، لم يكتف “محمد علي” باستبعاد الشعب، بل كان عليه أيضا أن يحطم من كانوا بالأمس شركاءه في التآمر (راجع ما يفعله السيسي الآن لتتأكد من أن المنهج واحد) ولهذا حارب المماليك، كما دبر لهم مذبحتين كبيرتين، ليقضي على نفوذهم، ولا يبقي منهم إلا شظايا تدور في فلكه. كانت المذبحة الأولى في 1806 حين دس إليهم من يغريهم بدخول القاهرة خلسة والوثوب على “الباشا”، فلما ابتلعوا الطعم أحاط بهم الجند، فقتلوا من قتلوا وأصابوا من أصابوا، وقبضوا على نحو المئة بعد أن حاصروهم في بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي، فذبحوا منهم خمسين ذبح النعاج، وساقوا الباقين إلى محمد علي الذي قطع رؤوسهم وأمر بها فسلخت وتم حشوها تبناً، وأرسلت إلى “الأستانة” ليعرف السلطان أن المماليك قد أوقع بهم، وأن عليه أن يقبل بمحمد علي حاكماً لمصر، حتى وإن كان يكرهه ولا يأمن جانبه. وقد أنهكت هذه المذبحة المماليك لكنها لم تقض عليهم، وفي أغسطس/آب 1810م جرت عدة معارك بين المماليك من جهة، والقوات العثمانية من الألبان ـ الذين ينتمي إليهم محمد علي ـ والأتراك من جهة أخرى، وفي 14 من الشهر نفسه أرسل الباشا من أرض المعركة أول بلاغ حربي من نوعه إلى القاهرة، وفيه أن دولة المماليك قد زالت تماماً، ثم عاد إلى عاصمة ولايته تاركاً جنوده يطاردون فلول المماليك حتى أجلوهم خارج حدود مصر. لكنه نصر لم يكن حاسماً، ولم يخدع محمد علي الذي كان يدرك تماماً أنه لن يقر له قرار على أريكة حكمه إلا إذا تخلص من المماليك نهائياً، ومن ثم كانت المذبحة الثانية (مذبحة القلعة) يوم الجمعة الأول من مارس/آذار 1811م، وفيها أجهز على 470 أميراً وقائداً من المماليك، ليقطع دابرهم، ويسدل الستار على دولتهم، ويتركهم لا يطمعون إلا في تقلد بعض وظائف دولته، بعد أن كانوا يناوئونه على حكم مصر.
  • جميع الخيرات
  • يقول “ابن خلدون” في المقدمة: “الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية؛ فيقع فيه التنافس غالباً، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة”*. ولا شك عندي في أن “محمد علي” برغم أنه أمي لم يبدأ تعلم القراءة والكتابة إلا وقد تجاوز الأربعين على يد إحدى جواريه، أدرك هذا المعنى، وتوصل بما أوتي من ذهن متوقد، وبما منحته الحياة من خبرات، إلى البنية التي لم تصبح قواما لحكمه وحده، بل لحكم العسكر في كثير من بلاد المسلمين والعرب طوال قرنين من الزمان، قابلة للزيادة، وهي البنية التي انطلقت الثورة لتهدمها، حتى وإن لم يكن كثير من المشاركين في الثورة على وعي بهذه البنية ولا بآليات الهدم، فشأن الثورات أنها تنطلق عفوية، ثم يتكون وعيها في خضم الصراع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 http://www.ahram.org.eg/archive/The-Writers/News/152782.aspx

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه