الربيع العربي يصيب النظم المضادَّة بالاضطراب

لا يمكن أن يكون “الربيع العربي” بلا تأثير، حتى لو جيّرته القوى النافذة، دوليا، وحاربته النُّظُمُ المستفيدة، محليا. فمِن آثاره أنه جعل نُّظُمًا عربية تعاني اضطرابا أكبر في هويتها، أو طابعها، مثالا على ذلك، نظام السيسي، في مصر، والسعودية في عهد وليّ العهد محمد بن سلمان.

فنظام السيسي، المفتقد الشرعية، والقافز إلى السلطة بانقلاب دموي، والخائف من الشعب المصري، ومن التنديد الدولي، في حال فشل في تغطية نفسه، أو في حال أحرج، حتى أمريكا التي لا يهمها كثيرا في عهد ترمب مسألة الديمقراطية، بقدر ما يهمها هزيمة تطلُّعات الشعوب الحقيقية نحو التحرُّر، واسترجاع إرادتها، هذا النظام المأزوم من أول يوم له في السلطة، حاول حينا أن يكون ناصريَّ الخطاب، ولو جزئيا، ثم آل إلى تقرُّب واضح من إسرائيل، الدولة المحتلة، والمُهدِّدة للأمن القومي المصري، والعربي، بصفة عامة. حتى بات يحظى بمديح خاص لدى الأوساط السياسية في دولة الاحتلال.

والنظام السعودي حاول أن يكون إصلاحيا قاطعا بذلك صلاته بالوهابية التي انبنى على التحالف معها، وذلك بغية التقرُّب من الغرب، ولكنه اضطر أن يصرّح بأدواته التي تكشف عن حقيقة طابعه، حين رجع ثانية، قمعيا خائفا من الرأي الآخر، فأضحى لا هو بقادر على الاستفادة المطلقة من التيار الديني، ولا هو قادر على التجاوب مع متطلبات الإصلاح.

قليل الخبرة

ولم يعد النظام السعودي قادرا، كما في السابق، على الاستقواء، بالأسرة الحاكمة، بعد أن أُقحِم الشاب، محمد بن سلمان، قليل الخبرة، وليًّا للعهد، ما ولّد معارضة ليست هيِّنة في الأسرة الحاكمة، ومحاولات التبرّؤ من الأداء الفظ والنَّزِق الذي ازداد أخيرا في السعودية، داخليا، باضطهاد من لم يعلن الموالاة التامة، والرضا بكلِّ القرارات بما فيها، حصار قطر، كما كان مع الشيخ سلمان العودة الذي استبشر خيرا بقرب التوصل إلى حل للأزمة مع قطر، فما كان إلا أن زُجَّ به في السجن، وأصبح مهدَّدا بالإعدام. وخارجيا بالأذى البليغ الذي لحق بالسعودية، اقتصاديا، ومعنويا، في حربها في اليمن التي طالت، وتسبَّبت بعذابات متنوعة وواسعة لأهل اليمن.

 وقد انعكس هذا القلق الوجودي على موقفه من قضايا مهمِّة في المنطقة، منها الموقف من بشار الأسد، إذ تراجعت المطالبة السعودية بإزاحته عن رأس الدولة، كما ظهر ذلك في الموقف من إسرائيل إذ صرَّح محمد بن سلمان، بما يتضمن اعترافا بها على أرض فلسطين التي اعتبرها، أو جزءا منها، أرضها التي يحقُّ لها العيش فيها، إذ قال في مقابلته مع مجلة ذي أتلانتيك الأمريكية، في سياق ردّه عما إذا كان يؤمن بحق الشعب الإسرائيلي في الحصول على جزء من الأراضي:” إنه يعتقد أنّ من حقِّ الفلسطينيين والإسرائيليين العيش على أراضيهم”. وهو خلاف الموقف العربي الرسمي، وَفْق المبادرة العربية، وهو قبل ذلك خلاف موقف الدولة، في بلاده التي لا تعترف، بَعْدُ، بدولة الاحتلال.

وقريب من هذا مواقف صدرت عن دولتي الإمارات والبحرين، فيما يتعلق بإسرائيل. وعلى الصعيد الفكري، كان تصريح السفير الإماراتي في واشنطن الذي جدَّد في مقابلة مع مجلة ذي أتلانتيك الأمريكية أن الإمارات تفضِّل النهج الغربي لفصل الدين عن الحكم، موضحا أن بلاده أصبحت اليوم” لا تزجُّ بالإسلام” عند مناقشة السياسة الاقتصادية، وتابع:” لقد تعلمنا منكم (الغرب)، وهذا دعا المجلة المذكورة إلى التعليق على كلامه بالقول: ” إنه على الرغم من ذلك لم تتعلموا الديمقراطية منّا”، فأجاب العتيبة بأن بلاده تركز على الحكم الذي يوفر الأمن والبنى التحتية والرعاية الصحية والتعليم، و” لكن لدينا أسلوبنا الخاص بالديمقراطية” (!)

لاحظ عمق الاضطراب، في كلام السفير، وهو الأمر الذي لاحظته المجلة، كما أنك تستطيع أن تستنتج انعدام الجِديَّة في دعاوى العلمانية، بغضِّ النظر عن الموقف منها، ومن مناسبتها لصيرورتنا التاريخية الخاصَّة.

القذافي والأسد

ونستذكر هنا، وفي معرض تتبُّع حالة الاضطراب في نظم الحكم الناجمة عن ثورات الشعوب، أو يقظتها الحقوقية، ما كان من الرئيس المخلوع معمَّر القذافي، وهو يستشرف خطر الزوال، فقد كان مرَّة يحذِّر الغرب من (المتطرِّفين) و(الإرهابيِّين)، ومرَّة يهاجم الغرب، ويتهمه بدعم الثوَّار ضدَّه.

وهكذا نظام الأسد، مرَّة يقول: إنه علماني؛ لإرضاء دول الغرب وطمأنتهم، في مقابل التخويف من الإسلاميين، ويحذِّر من آثار زواله وحلولهم محلَّه على أمن إسرائيل، أو وجودها، وعلى مصالح الغرب، بصفة عامة، ومرَّة يصطفُّ في الممانعة والمقاومة، ويقول إنه يواجه التآمر الغربي على حلف الممانعة.

وخلاصة القول، إن “الربيع العربي” أحدث خضّة لا تزال تتفاعل، بوصفها تعبيرا عن إرادة شعبية عربية تحاول أن تتجسَّد، وهذه النُّظُم المُفوَّتة، تعي عوامل الضعف البنيوية التي تلازمها، وهي وإن نجحت، مرحليا، في كبح تلك التطلُّعات الشعبية نحو التحرُّر، وإعادة البناء، إلا أن الهزَّة القويَّة ضعضعتها، في طابعها وخطابها وهُويَّتها.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه