في العشق والسلطة

وبصرف النظرعن أنها خصت صديقي سعيد بدعاء الحاكم واستبعدتني حيث إن المنصب لا يحتمل منافسة لا على المستوى الديمقراطي ولا على مستوى دعوة أم سعيد

 

بداية كل عام وأنتم بخير بمناسبة العام الجديد… وبعيدا عن حصاد عام 2017. وبعيدا عن تقيم أحداث عشناها بكل آلامها ومآسيها، سأحاول أن أبحر قليلا تجاه موجات السلطة الحكام والحكم والمحكومين وعلاقاتهم المتداخلة المتنوعة الغريبة.

أتذكر دعوة أم صديق لي وأنا في مرحلة الصبا عندما باركتنا بدعائها بمناسبة العام الجديد فقالت: «كل سنة وانتم طيبين يا ولاد ربنا يسعدكم والهي أعيش واشوفك يا سعيد يابني من الحكام وأدوق خيرك!!» وبصرف النظر عن أنها خصت صديقي سعيد بدعاء الحاكم واستبعدتني حيث إن المنصب لا يحتمل منافسة لا على المستوى الديمقراطي ولا على مستوى دعوة أم سعيد، إلا أن منصب الحاكم والسلطة والوزير كانت أمنيات لدى البسطاء وخاصة الذين عانوا من التهميش والظلم والفقر، وأم سعيد كانت متأكدة أن المنصب يحمل الكثير من الخير لهذا تمنت أن تعيش هذه اللحظة حتى تذوق من خير سعيد وهو حاكم.

منذ أزمان بعيدة والحاكم على الأرض عند المصريين نصف إله وليس منصبا إداريا في مؤسسة، وفي أفضل الظروف عندما شهدت بعض الفترات المتقدمة الشكل المؤسسي كانت المؤسسة كلها في مرتبة تلي مرتبة الحاكم، ولهذا فمصر هي البلد الوحيد الذي يعكس فيه الشعب ومؤسساته فكر الحاكم واتجاهاته وليس العكس كما هو متبع في معظم بلدان العالم، وإحقاقا للحق لا أستبعد من هذه الحالة كثيرا من الدول العربية.

الفلكلور الأمريكي

فاز ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية ومن قبله أوباما ومن قبلهم بوش وكلينتون وجونسون ونيكسون وكنيدي وكثيرون، ولم يعرف الفلكلور الأمريكي أغاني العشق الشعبية للحاكم القادم، فلم نسمع يا ترمب يا كايدهم أو يا أوباما يا حبيب الملايين أو كنيدي يا حارق دمهم.  وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية تنافست مارين لوبان مع إيمانويل ماكرون وكانت منافسة شديدة لم يفز فيها أى من المرشحين بالأغلبية المطلقة في الجولة الأولى وفي الجولة الختامية فاز إيمانويل ماكرون بنسبة 66.6 في المائة، ولم تشهد الانتخابات تدخل أي جهاز حكومي سواء الشرطة أو القضاء أو حتى مصلحة المجاري الفرنسية، ولم تستعن «لوبان» بالخالة فرنسا لتفرش الملاية لـ«ماكرون» وتعايره بأنه تزوج من مدرسته اللي في عمر أمه، ولم يستعن ماكرون بعلاقاته بمأمور قسم الحي اللاتيني ليورط «لوبان» في قضية خروج عن الآداب العامة ويتهمها بأنها حركت له حاجبها وهي تتحدث في أحد المؤتمرات الانتخابية.

والأمر لا يختلف كثيرا في مصر فيما عدا بعض التعديلات النابعة من أصول فكرية قديمة، فرئيس الدولة في الغرب حاكم يرأس نظاما إداريا يعبر منذ اللحظة الأولى عن رغبات واتجاهات المحكومين، أما الحاكم في مصر فهو سلطة مطلقة يقود نظاما إداريا ملتزما بأوامره حرفيا، ومن اللحظة الأولى يجبر الحاكم المحكومين على الالتزام بأفكاره وتوجهاته العامة وحتى الشخصية، بل يصل الوضع إلى فرض الحب والعشق للحاكم على المحكومين، وهو الأمر الذي يفسر تاريخيا حالة الإفراط العاطفي التي تصيب المحيطين بالحاكم فـ«يتمرمغون» تحت تراب قدمه، ولهذا فالحاكم في مصر ليس إفرازا لرغبة المحكومين بل إنه قدر يصيب الشعب عبر ملابسات تاريخية مختلفة وغير مسموح بتحدي الأقدار.

التبجيل مبكراً

في عام 2014 عندما فرضت الأقدار الإلهية والعسكرية المرشح عبد الفتاح السيسي ليحقق الفوز المسبق في الانتخابات الرئاسية، لم يضطر الشعب إلى انتظار إجراء الانتخابات فالقدر كان واضحاً وكل لبيب بالإشارة يفهم وبدأت إجراءات التبجيل الشعبي مبكرا قبل الإعلان الرسمي، وظهرت أغنية «السيسي حبيبنا»، ومن كلماتها «السيسي هو حبيبنا هو قائدنا هو زعيمنا السيسي هو رئيسها ورئيسي ربنا يحفظك ويصونك ياللى شايلنا جوه عيونك»

وتستمر كلمات الأغنية لتصل إلى مقطع «حققنا معاك أمنينا صوتك لحن يدفينا»!!، أعلنت الأغنية أن السيسي حقق أماني الشعب قبل أن يخوض حتى الانتخابات الرئاسية، وهي معجزة تفوق معجزة كلام السيد المسيح في المهد!!

ومن قبل هذه الأغنية كتب صحفي مصري في وصف «السيسي» بيتا من الشعر اقتبسه من قصيدة ابن هانئ الأندلسي في وصف المعز لدين الله الفاطمي «ما شئت إلا ما شاءت الأقدار،، فاحكم فأنت الواحد القهار…. فكأنما أنت النبي محمد،، وكأنما أنصارك الأنصار»

وبدأ عهد المعجزات مع ولاية السيسي، ففي عام 2015 قال راعي الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية في القاهرة مكاري يونان إن الرئيس عبد الفتاح السيسي مرسل من السماء.

أما الدكتور سعد الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، فاعتبر أن عبد الفتاح السيسي مبعوث من الله، وفي نفس السياق يؤكد أحد مشايخ الأزهر في خطبة أن السيسي ابن الحسين.

ولكي يستريح ضميري أعترف أن العشق والتأليه الشعبي للسيسي ليس ظاهرة جديدة، رغم المبالغة فيه، فنفس الأمر حدث مع حسني مبارك وأنور السادات وجمال عبد الناصر، بل كان يحدث قبل ذلك بسنوات فترة حكم أسرة محمد علي وهناك أمثلة كثيرة سأتعرض لبعضها في غير ترتيب زمني.

الشيخ محمد متولي الشعرواي كتب يرثي الملك فؤاد وبارك ابنه فاروق قائلا: «فدم يا رشيد العصر للنيل حامياً… ودام لنا المأمون فاروقك البر»

وعقب ثورة 23 يوليو (تموز) 1952. مدح الشيخ الشعرواي عبد الحكيم عامر قائلا: «عبد الحكيم الفتى من مثله همما… فلن يوفيه المهزول من أدبي… أستسمح الآن شوقياً لأنشده… يا خالد النيل جدد خالد العرب… عبد الحكيم تولى الله غايتكم… يا صاحب الظفر المحتوم إن تثب».

ولم يقف شعر “الشعرواي” في مدح الحكام عند الحدود المحلية، فكتب قصيدة مدح في الملك فهد بن عبد العزيز وصفه في أحد أبياتها بأنه ظل الله في أرضه قائلا: «يا ابن عبد العزيز… يا فهد شكراً… دمت للدين والعربة فخراً… أنت ظل الله في الأرض… تحيا بك البلاد أمناً وسراً».

ولم تقف ظاهرة المدح الشعري عن الحكام بل وصلت للمحتل، فنجد شاعر النيل حافظ إبراهيم يمدح بريطانيا وقت احتلالها لمصر قائلا: «من ذا يناويك والأقدار جارية….بما تشائين والدنيا لمن قهر».

فأنت السد

وفي عام 1967 وعقب نكسة 5 يونيه غنت أم كلثوم لجمال عبد الناصر أغنية «حبيب الشعب» جاء ضمن كلماتها «ابق فأنت السد الواقي لمنى الشعب…ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب….أنت الخير وأنت النور….أنت الصبر على المقدور….أنت الناصر والمنصور»، وقبل هذا التاريخ بثلاثين عاما وتحديدا في عام 1937 غنت أم كلثوم للملك فاروق الذي أطاحت به حركة ضباط يوليه بقيادة جمال عبد الناصر قائلة: «طلع السعد عليها يوم ناداها البشير قائلا فاروق هلا… ونما البشر إليها حين وافاها السرور بهلال قد تجلى»، وقبل هذا التاريخ بخمس سنوات أي في عام 1932 غنت أم كلثوم للملك فؤاد شعرا لابن النبيه المصري قالت فيه «ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا. أفديه إن حفظ الهوى أو ضيع. ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا. من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه، حلوا فقد جهل المحبة وادعى»!!.

مشكلتنا يا سادة ليست في الديمقراطية وإنما في تراث القهر الذي يطاردنا في ظل أنظمة فاشية قمعية لن تسمح لنا بالتطهر والتخلص منه، وكل عام وأنتم بخير.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه