كلنا على المرجيحة

(1)

أشعر أننا نعيش فوق أرجوحة ملعونة، مرة تكون الآمال والتطلعات فوووووق، وفجأة تصبح على الأرض، وبين هذا الـ”فوق” وهذا الـ”تحت” أصابني دوار نفسي وذهني وسياسي، وتحت تأثير هذا الدوار تبدو الرهانات كلها خاسرة، حيث لا أمل في إصلاح الدولة من داخلها بعد أن صارت “خرابة” لا يسكنها إلا الثعابين والقوارض وعفاريت الخوف، وحيث لا أمل في تغييرها من خارجها لأن فرسان التغيير شراذم وفرقاء لا يتفقون إلا في الاختلاف، وحيث لا أمل في إسقاط الدولة لأن فوبيا سوريا والعراق أصابت ملايين المسالمين فارتضوا الفساد والقمع خوفا من الشتات والقتل، واختاروا طائعين ومرغمين طريق دعم الدولة. وقد كنت يوما من اولئك الذين يفرقون بين دعم النظام ودعم الدولة، وكنت أتصور أن رعاية الدولة الجريحة، هدف وطني في مقدمة الأولويات، لكنني رأيت بعيني تلك الدولة في أكثر من موقف، وهي تشهر أنيابها كلما تعافت، فتنهش لحم أولادها!

(2)

تقول الأسطورة إن الدولة، كانت وحشا منذ البداية، وإن فترات رعايتها لأبنائها كانت قليلة واستثنائية في عمرها الطويل، وإن هذه الرعاية مجرد استثمار للذبح، أو البيع في أسواق الغربة، أو لخدمة مملكة الوحوش التي تناسلت من رحم الدولة، ويقول الحكماء إن اكسير الديموقراطية الذي توصل إليه ساحر في بلاد بعيدة، نجح في استئناس هذا الوحش لحماية الأبناء والأرض، لكنه عندما يمرض يعود إلى طبيعته البدائية المتوحشة، وينصحوننا بعلاج الوحش وعدم قتله، لأن قتله سيفتح صندوق اللعنات! والمصيبة أن الساحر لم يعلمنا كيف نتعامل مع هذه الدولة “المستذئبة” التي تنتابها حالات السعار، بينما كانت منذ قليل تحدثنا عن الحنو والرفق، ولم يقل لنا: إذا تصارعت هذه الدولة مع وحش آخر من الوحوش الكبار هل نتركه يقضي عليها، أم ندافع عنها، ونظل نعاني بعد ذلك من غدرها و من أنيابها المفترسة؟

(3)

لا تنسوا أن هناك عالقين في وضع ثابت لا يغادرون أماكنهم، فلا يرون إلا نفس المشهد، ولا يعترفون أساسا بما يراه غيرهم، ولا يتصورون أن هناك شيئا آخر خارج رؤيتهم، وهناك أيضا العباسيون، وهم عالقون في رؤية أبي العباس الكبير، لا يرون إلا ما يراه، ولا يصدقون غير ما يقول، وهناك الذين يعرفون المشكلة لكنهم عالقون في عجزهم وضعف أدواتهم، فليس لهم بوقا ينفخون فيه لإفاقة العالقين في الدوجما، ولا ثروة يحررون بها عبيد العباسيين، ولا سلطة يوحدون بها الفرقاء.

(4)

الموضوع كئيب ومعقد، لهذا لن ينفع معه اسلوب “الألش”، فلن نستمتع كثيرا باللامبالاة والخفة التي تعودنا ان نسخر بها من أزمات المرحلة، والمؤسف أكثر أن النظرة المأساوية القاتمة لأزماتنا لن تنفع أيضا، لأنها السلعة الوحيدة التي يتفوق النظام في إنتاجها حتى أغرق بها الأسواق وصارت الأحزان مجانية في “جمهورية الفوبيا”. وهذا يعني أننا سنظل لفترة عالقين على الأرجوحة، نختلف ونتشاجر فيما بيننا مع أن المشهد الذي نراه واحدا وواضحا، لكن الخدعة التي تتسبب في الخلاف هي أن بعضنا يراه مرة وهو فوق (بينما البعض الآخر تحت)، ومن يحدث الاختلاف في الرؤية فتقسم حضرتك بأعظم الأيمان أنك رأيت كذا وكذا، وأنني كاذب، ولما يتغير الوضع وأصبح أنا فوق (وأنت تحت) تخالفني أيضا في رؤيتي، وتقسم أنك الأصح، لأنك ترى مالا أراه.

(5)

نظرية المرجيحة” هذه، تصلح لتفسير الاختلافات الوهمية بيننا جميعا، فكلنا نقول نفس الكلام، وكلنا يتخذ نفس المواقف، لكن رؤيتنا ومواقفنا لا تجتمع أبدا في اللحظة نفسها، لذلك لا نتفق على رؤية مشتركة، وهذه الرؤية المشتركة لن تحدث إلا في حالتين: حالة لا نملكها الآن، وهي النزول عن الأرجوحة لنعيش حياتنا في وضعية استقرار، والحالة الثانية أن نفهم اللعبة وقواعدها، كل واحد من راكبي الأرجوحة يثق في رؤية زميله دون أن يكون ذلك على حساب رؤيته هو أيضا، لكن يبدو أن أحدا لا يريد التفريط في أنه وحده الذي يرى “الصح”، أنه وحده الذي يمتلك الحقيقة، وأنه وحده الذي يستطيع أن يضع الخطط ويأخذ قرارات التنفيذ، والمشكلة لو كان هذا “الأحد” يملك القدرة على فرض ما يراه دون اعتبار للآخرين، حينها ستتحول اللعبة إلى مأساة، وينفتح أيضا صندوق اللعنات، ويعود الوحش ليغرس أنيابه في لحم أبنائه، وبينما هم يتعذبون، ويصرخون ألماً، يواصلون الاختلاف والشقاق حول الحل الأنجح: ترويض الوحش، أم القضاء عليه؟
هل لديكم إجابة يا ركاب المرجيحة؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه