الحَوَل المزمن

عندما وقَّع الأسد الأب معاهدة وقف إطلاق النّار مع إسرائيل ورفع شعارالتّوازن الاستراتيجي التفت إلى شعبه ووجّه له ضربة موجعة في بداية الثمانينيات رافعاً أحد شعارات المقاومة ضدّ العدو

تؤرقني كثيراً فكرة الحول، ليس الحول الذي يصيب البصر، إنّما الحول الذي يصيب البصيرة فالأوّل علاجه سهل، بينما الثاني يكاد يكون مستحيلاً، فهو يتبدى تارة من خلال إعلام مخادع يُزيّن قبح الأفعال على الأرض، وتارة أخرى على شكل نفاق يعكس خوفاً مزمناً على مصلحة شخصية، والأكثر قبحاً في هذا الحَول عندما يعكس حالة من العبودية الطّوعية، حيث لا مصلحة شخصية ولا منفعة وإنّما فقط عدم القدرة على العيش بحريّة وضرورة توافر السّيد الذي تنحني الرؤوس له.

الحول العربي

 والمشكلة أنّ هذا النّوع من الأمراض لا يصيب الأفراد فقط بل قد يتخطى ذلك إلى الجماعات وأحياناً الأمم، لكن للحقيقة والتاريخ أنّي وجدته في أمتنا العربية مستفحلاً ولم أدرس الظاهرة في أمم أو جماعات أخرى. فعلى سبيل المثال عندما وقَّع الأسد الأب معاهدة وقف إطلاق النّار مع إسرائيل ورفع شعار التّوازن الاستراتيجي التفت إلى شعبه ووجّه له ضربة موجعة في بداية الثمانينات رافعاً أحد شعارات المقاومة ضدّ العدو الصّهيوني والمتمثل بتصفية الإخوان المسلمين بصفتهم أصحاب ( نشأة مشبوهة وتاريخ أسود ) وأثناء حملة المقاومة هذه لم ينسَ أن يقوم بتصفية أعدائه المحتملين من شيوعيين وناصريين وبقايا البعث القديم ( الممولون من العراق ) ولما أيقن بأنّه أضحى السّيد المطلق في سوريا تابع مشروع المقاومة ضدّ الصهيونية العالمية بتصفية أعدائه في لبنان وبقي طيلة سنواته العشرين الأخيرة وهو يصفع عملاء إسرائيل بداية بكمال جنبلاط وليس انتهاء برفيق الحريري. وكان قبل ذلك قد أنهى تماماً وجود تل الزعتر ومن المفارقات العجيبة أن تقوم إسرائيل وعملاؤها بمجازر صبرا وشاتيلا إيذانا بولادة مشروع المقاومة والممانعة، حيث ورث المدعو حسن نصر الله مرض الحول التاريخي وأعلن نفسه سيد المقاومة مبتدئاً بكف يد حركة المقاومة اللبنانية الحقيقية ضدّ إسرائيل ليحتكر هو وحزبه إدارة الصراع وكان نتيجة هذا الحَول ما نراه اليوم في لبنان المقاومة، إذ انتقلت العدوى حتى لابن القتيل (سعد الحريري) الذي بارك قتلة أبيه وانضوى تحت لوائهم بعد أن أيقن أنّ مشروع المقاومة يقتضي ذلك، وله في سلفه ميشيل عون خير قدوة فمن يصيبه هذا الحَول ينسى كلّ التاريخ وينسى يوم كان ضحية وينضوي تحت كنف الجاني أو القاتل، وخير دليل على ذلك وقوف معظم من تأذى من وجود الجيش السّوري في لبنان مع القائد العام لهذا الجيش في محنته الكبرى أمام ثورة شعبه.

ذات يوم جرح شاب يوناني في مظاهرة حدثت في أثينا احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية ثم توفي بعد يومين إثر جروح سبّبها له الأمن اليوناني، فنزل الشّعب اليوناني بأكمله إلى الشّوارع في كلّ مدن اليونان وأجبر الحكومة على تقديم المتسببين للمحاكمة ثمّ أجبر الحكومة على الاستقالة. هذا مثال بسيط لصحة البصر والبصيرة، أما شعوبنا العربية التي ألفت الكلام فتمتلك من القدرة على تبرير الجرائم ما يكفي لتشخيص هذا المرض، فقتل الآلاف في رابعة حربٌ على الإرهاب وحفاظٌ على الدولة ولا يستدعي تحركاً شعبياً عارماً، وفي سوريا قتل مئات الآلاف أيضاً حرب على العصابات المسلحة وإنهاء لحاضنتها؛ لأنّها تحمي هذه العصابات، ولا يستدعي الأمر حتّى مجرد عبارة تنديد على مواقع التّواصل، فإلقاء البراميل على البيوت عمل وطني وتدمير المدن عمل وطني، بغض النّظر عن انتشار عصابات التّشليح والقتل وانتشار الفقر والغلاء في المدن الآمنة، فيكفي أنّها تنعم بحضن القائد، وأقصى ما يمكن فعله هو مطالبة القائد “الضرورة” بمحاربة الفاسدين من أمثال محتكري السلع الضرورية. كذلك الأمر أيضاً عندما حاولت بعض الدول الخليجية محاربة إيران من خلال الجبهة القطرية، ومن خلال إحداث شرخ بين الشعوب الخليجية.

حَول من يدّعون العبقرية

ولا يقتصر مرض الحَول هذا على الجماعات أو الشعوب فترى الكثير من عباقرة الأمة مصابون به فأدونيس على سبيل المثال رأى المظاهرات تخرج من المساجد وعندما خرجت من جامعة حلب كانت عيناه ماتزال تحدقان على أبواب المساجد ورفض حتى أن ينظر إلى الجهة الأخرى فالثورة هذه ثورة المتخلفين أصحاب الرؤى الدينية المتحجرة في عصور بني أمية والخلفاء الراشدين بغض النظر عن مدائحه العظيمة لثورة الخوميني وبغض النظر عن كتابه العظيم حول محمد بن عبد الوهاب فهذا يدخل في نطاق ما يسميه الأخوة في مصر (أكل عيش). كذلك فعل الشاعر نزيه أبو عفش عندما رأى في التدخل الروسي حالة إنقاذ وليس احتلال، فسارع على صفحته الفيسبوكية بإعلان اسمه الجديد مفتخرا بذلك (نزيه أبو عفش بوتين) لقد تخلّى الرجل عن نسبه كله ونسب نفسه إلى المحتل الذي وقّع مع قائده المفدى قبل شهر اتفاقية احتلال لـتسع وأربعين سنة قابلة للتجديد لخمس وعشرين، هكذا عندما يتحوّل الحول بالبصيرة إلى نوع من العماء المطلق..

الحول والتحديات الطريفة

بالتأكيد لا أقصد بالحول الظريف ما تمتع به الممثل المصري عبد الفتاح القصري، الذي أخذ طرافته من عينيه في معظم أدواره السينمائية.. عيناه اللتان كانتا مصدر إلهام للكوميديا بين زملائه، أشهرها ما حدث له في فيلم “شيء من لا شيء” مع المطرب عبد الغني السيد الذي عطل تصوير الفيلم بسبب عدم استطاعته منع نفسه من الضحك كلّما نظر في وجه القصري مع أنّه يصوّر مشهداً حزيناً!

ولست أقصد التحدي الذي أدخل عارضة الأزياء “موفي” عالم الأزياء على الرغم من حولها بل كان جواز مرورها إلى عالم الإعلان أيضاً.. لكن المقصود هو الحول الذي تمتع به شبل الأسد بشار الذي اقتنع بتفوق ابنه وعبقريته فأرسله ممثلا عن سوريا إلى الأولمبياد العالمي للرياضيات.

أطرف أنواع الحَول حَول القطيع حين يسير وراء الذئب ظنّاً منه أنّه كلب الراعي! فها هو القطيع يبارك لسيد الوطن فوزه بالمرتبة “28” بالأولمبياد العالمية للرياضيات مسقطاً من حسابه رقم 500 وهو الترتيب الذي حاز عليه أحول البصيرة حافظ الصّغير الذي لن يجد شيئاً ليبيعه حين يصل الحكم فقد باع والده كلّ شيء. (528) من أصل 600 متسابق مرتبة مشرفة مثّل فيها سوريا! في الوقت الذي أعلن فيه النظام السوري قتله للناشط السوري الفلسطيني باسل خرطبيل الصفدي الحائز على المرتبة 19 عالمياً في مجال برمجة الكمبيوتر والذي اختارته مجلة “فورن بوليسي” الأمريكية ضمن أهم 100 شخصية مفكرة في العالم عام 2012 .

باسل قضى في سجون النظام تحت التعذيب..

وحافظ مثّل سوريا في الأولمبياد.. والقطيع الأحول يسير وراء الذئب.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه