اليسار السلفي

الحركة الشيوعية التي كنت جزءاً منها، لم تكن فقط أيديولوجيا سياسية نظرية نعتنقها. كنا نتعلم تفضيل فيروز وكراهية أم كلثوم وعبد الحليم لأنهما يدعمان مفاهيم الحب البرجوازي

كانت صدمتي كبيرة عندما انتقد المهندس سعيد ابو طالب الاتحاد السوفييتي. هل معقولة أنها ليست جنة البشر على الأرض، هل يمكن أن تكون فعلا كما يقول فيها انتهاكات للحريات وهل.. وهل.. وهل … الخ. كنت وقتها شاباً صغيرا في اواخر ثمانينات القرن الماضي، وكنت عضواً في حزب العمال الشيوعي في مصر. كانت هذه أول ضربة للجدار الملائكي للدولة الشيوعية. عشنا على الاحتماء بظلها، فهي الدولة التي جسدت حلم تحقيق الشيوعية على الأرض.

هذه الدولة اسسها مجموعة من “النبلاء” بقيادة الزعيم الشيوعي لينين ورفاقه ستالين وتروتسكي وغيرهم. نجحوا في أن يطبقوا اخيراً ديكتاتورية البروليتياريا (العمال) ويقضون نهائياً على البرجوازية، ينتصرون انتصاراً ساحقاً على الرأسمالية العنصرية مجسدة في هتلر، وأن يحققوا دولة العدل لكل مواطنيها، ويحققوا ايضاً تقدماً علمياً وصناعياً واقتصادياً وسياسياً .. الخ غير مسبوق.

 لذلك كان أي خدش ولو صغير لهذا الكيان غير مسموح به في اوساط حزب العمال وأوساط الشيوعيين، وإن حدث فيكون على استحياء. لم نكن نقرأ إلا كتباً تمجد فيه، ولا نسمع إلا مدحاً له.  كما لم نكن نقرأ نقداً للماركسية ولا حتى اتجاهاتها وتياراتها، ولا نرف شيئاً عن تطوراتها في الأحزاب الشيوعية الغربية. لقد كان سياجاً ايديولوجياً غير مرئي، لكنه محكم حول الفلسفة الماركسية الى مقدسات، ويحول تطبيقاتها الى مقدسات ايضاً، ويحول لينين ورفاقه الى ملائكة لأنهم اسسوا الدولة الأولى، ولأنهم نجحوا في ان يسيطروا بها على نصف اوروبا وينشروها في كل العالم.

أنبياء الاتحاد السوفيتي

 كما امتد فيض التقديس الى نماذج لمناضلين في العالم، منهم كاسترو بسيجاره الشهير الذي أسس ايضاً بالسلاح (كنا نطلق عليها ثورة شعبية مسلحة) الشيوعية في الدولة الصغيرة كوبا، وبها كان يناوش العدو المتوحش الأكبر امريكا. أما رفيقه الشهير جيفارا، فقد ترك منصبه الوزاري مع صديقه كاسترو وقررا أن يحملا السلاح لينشرا الثورة في امريكا اللاتينية، وكما هو معروف قتلته المخابرات الأمريكية. تحول الى ايقونة لـ”الرومانسية الثورية”، رمز يخلب القلوب، مثال علينا الإحتزاء به. 

 تكون لدينا تصورا نهائيا ومغلقا لإصلاح العالم دون ارادته، فقط بإرادة الطبقة العاملة، وبما أننا طليعتها الثورية، فهذا العالم سوف نغيره دون حتى أن يريد، بل وليس مهماً أن يريد، فنحن سوف نريد نيابة عنه. إنها الأيديولوجيا التي تصبح فوق البشر، ولابد أن تطبقها عليهم مهما كان الثمن. 

 لذلك اتفهم جداً الذين انزعجوا من انتقاد صلاح الدين الأيوبي، فسواءً كان ما قاله الدكتور يوسف زيدان صحيحا تاريخياً أم لا؟، فمجرد النقد ذاته يزلزل بناءات ايديولوجية صلبة يعيش اصحابها بداخلها مرتاحين وسعداء ومحميين  بيقين مطلق انهم يملكون الحقيقة والوطنية والإسلام. فهم لا يريدون حتى مجرد التفكير في احتمالية أن صلاح الدين بشر له اخطائه، أو حتى يكلف نفسه عناء البحث، فهو آمن مستمتع بخرافاته الأيديولوجية المقدسة.

 لذلك ستجد أن كثيراً من الهجوم على زيدان شتائم واتهامات بالعمالة للصهيونية العالمية واسرائيل، وعدو الإسلام … الخ. نادراً ما تجد مناقشة، أخذ ورد، فهو لا يستطيع، ليس لأنه سيئ، ولكن لأنه يحتمي  بجهل عظيم.  

 هذا بالضبط ما كنا نقوله ضد كل من ينتقد الماركسية وتطبيقاتها الشيوعية وكل من يمس انبيائها في الاتحاد السوفييتي وكل مكان في العالم، فهو “برجوازي عميل للرأسمالية العالمية وابنتها اسرائيل”. بالإضافة الى الاتهام الشهير في اوساط اليسار بأن فلان “عميل للأمن”. وما ادراك بهذه التهمة المروعة التي اغتالت معنوياً بشراً لا أول لهم ولا اخر. 

 لذلك لم اتعرف على أفكار تروتسكي أحد القادة الكبار لـ”الثورة الروسية” إلا بعد أن تركت حزب العمال، رغم أنه مثلاً كان قائدا للجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية. أرسل له الرئيس السوفييتي ستالين قاتلا محترفا شق رأسه بالبلطة في المكسيك، رغم أنه كان دون شك شيوعياً، فهو فقط لا يرضى عن النموذج الستاليني، ويطمح الى نموذج اخر شيوعي، كما لم اعرف أن ستالين صفي كل اعضاء المكتب السياسي وانفرد وحده بالسلطة ليتحول الى شبه إله، ناهيك عن جرائمه الكثيرة ضد الإنسانية.

“ناس كويسين”

 أتذكر الآن المرة التي رأيت وتعاملت فيها مع شيوعيين اخرين من تنظيمات اخري، كان ذلك في الانتخابات البرلمانية عام 1984. كنت مندهشاً لأنني وجدتهم “ناس كويسين” وليسوا شياطين. فقد كانت العقيدة التي تربينا عليها أن هؤلاء وخاصة الحزب الشيوعي المصري وقتها، يدمرون الماركسية وأملها في الشيوعية، بالطبع لصالح البرجوازية المحلية والرأسمالية العالمية … الخ. إنهم اكثر خطراً على الشيوعية من البرجوازية والرأسمالية العالمية ( نظرية العدو الأقرب اولى بالقتال من العدو الأبعد عند كثير من الإسلاميين ). لذلك لم نقرأ كتاباً لرفاقنا الشيوعيين من خارج التنظيم، ولا اطلعنا على منشوراتهم، ولا سعينا لصداقتهم . واذا اضطررنا للعمل المشترك، فبحذر شديد وهواجس لا أول لها ولا اخر.  

  الحركة الشيوعية التي كنت جزءاً منها، لم تكن فقط أيديولوجيا سياسية نظرية نعتنقها، بل كانت عالماً كاملاً موازياً للواقع. كانت لنا اغاني (أهمها الشيخ إمام وعدلي فخري رحمهما الله)، كما كانت لنا طريقتنا المختلفة في اللبس، والغالب فيها عدم الاهتمام بالمظهر لأن هذا من علامات البرجوازية. كنا نتعلم تفضيل فيروز وكراهية أم كلثوم وعبد الحليم لأنهما يدعمان مفاهيم الحب البرجوازي. كما كانت لنا الدوائر الإنسانية المغلقة التي نتحرك فيها، وبنسبة 99% هم من اعضاء حزب العمال. ومثلنا حسبما اعرف باقي التنظيمات الشيوعية. كنا نتزوج من بعض ونتزاور مع بعض، ونحلم مع بعض وكل شيء تقريباً مع بعض. لقد فقدت صداقاتي التي كونتها طوال حياتي قبل التحاقي بالشيوعية.

 هذه الحالة من التماهي في الكل، في التنظيم، في الفكرة، جعلتني أظن أنه ربما الجالس بجواري على المقعد في الأتوبيس ماركسي ومعي في الحزب، فنحن بدون شك كثيرين وحلمنا قادم. كما أتذكر كيف ارتجفت بالمعني الحرفي عندما رأيت الرفيق “الحسيني”، كانت هذه أول مرة اري عامل شيوعي حقيقي. فكما تعرف الماركسية وتطبيقاتها تقدس العمال، ولا تعادي فقط باقي طبقات المجتمع ولكنها تحتقرها ايضاً. ظللت أتأمل الرجل بكل جوارحي، واستمع له بإنصات، فها هو الرفيق المثالي الذي يجب أن نكونه جميعاً حتى لو قال كلاماً تافهاً. 

  يمكنك القول بأن الحركة الشيوعية في مصر والشرق الأوسط سلفية بامتياز، فحتى عندما انهار الاتحاد السوفييتي والكثير من الدول الشيوعية، رفعوا الشعار الخالد ” العيب ليس في النظرية لكن في التطبيقات القاصرة”، بالإضافة بالطبع الى المؤامرات الإمبريالية العالمية مع ابنتهم المدللة اسرائيل”. 

 هذا ربما  ما يفسر اختفاء هذه التنظيمات لأنها لم تتطور، لكن تجلياتها العلنية في مصر وغيرها، سواءً في أحزاب أو أفراد، لم تتجاوز هذه الأيديولوجيا الأصولية المغلقة، ويفسر فشلها السياسي. فصديقي الشيوعي عندما قرر الهجرة من مصر منذ سنوات طويلة، لم يختر لنفسه ولأسرته الحياة في كوبا الشيوعية ولا في الصين وكوريا الشمالية، لكنه اختار “كندا” من اكبر الدول الرأسمالية الإمبريالية المتوحشة في العالم”. مثله الإسلامي وربما اغلب المسلمين، عندما يقررون الهجرة لا يختارون أي دولة اسلامية “تطبق شرع” الله، يختارون الغرب ينعمون بحريته وثراءه، وداخلهم يحافظون مثل كل الأصوليين على الاحتماء وراء جدران أيديولوجيتهم وربما كراهيتهم للغرب “الإمبريالي المسيحي”

      

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه