قبل الطوفان الجاي

كنا قبل ثورة يناير بأقل من عامين، وحراك التغيير تهز جدران القصور الآيلة للسقوط، لكن أحدا لم يكن يتوقع أن تندلع الثورة بالشكل الذي اندلعت به.

(1)

لكل عام انتصاراته وانكساراته.. أحزانه وأفراحه، لكنني لم أستبشر خيرا ببدايات 2017، الذي غلبت فيه الانكسارات على الانتصارات، والأتراح على الأفراح، وقد استشعرت ذلك مبكرا لما رحل الحبيب سيد حجاب في ذكرى ثورة يناير، ليربط بين رحيله وبين الثورة التي انتمى إليها شعراً ونثراً، وناضل من أجلها بالقول والحول، ولم يبدأ هذا الانتماء بعد اندلاع الثورة في بدايات عام 2011، لكنه بدأ منذ قدوم حجاب إلى القاهرة ووقوع الصياد في غرام “الجنّية”، بعدما نزل ذات يوم إلى “بحر الأمنيات” وظل يردد نشيده المسحور:

“لو كنت أميرْ من أمراء الحواديت

كنت أدى لكل فقيرْ وفقيرة بيت

بيت بجنينة مليانه زهور.. وبعشة مليانة كتاكيت

أعلق فوقه قمر بنّور.. ونجوم لولى فتافيت فتافيت”

(2)

لم تتحقق الأمنية الطوباوية كالعادة، لكن “أمير الفقراء” حقق لهم أكثر مما تمنى.. لقد منح كل فقير وفقيرة كنزاً من جواهر كلامه وثمار أيامه.. منحهم عمره كله، وشعره كله

«آدى الحقوق وآدى اللى طالبينها

الحق تاه في الباطل البطال

وقلوبنا تاهت عن محبينها

ونجومنا عالية بعيدة ما تنطال».

(3)

مثل أي صياد من المطرية، كان عم سيد يعرف أن رزقه في جوف البحر، فلم ينتظره منة وتسولاً، من ظالم على البر، مهما بلغت ثروته، ومهما كانت الهالة والهيلمان، ومثل المداحين الشعبيين كان عم سيد يفتتح كلامه وأشعاره بمديح الله والناس، كما قال في ديوانه «صياد وجنّية»:

«من بعد حمد الله.. وبه نستعين / وباسم ناسنا الطيبين أجمعين»

(4)

ومثل المؤمنين العابدين المجاهدين كان عم سيد يرجم الشياطين السلاطين كما خاطبهم في ديوانه «قبل الطوفان الجاي» قائلاً:

«يا أجبن الحكام../ يا غرقانين في طين جهالة وعطن».

(5)

اتصلت بصديقي الطيب، وطلبت منه نسخة عاجلة من ديوان «قبل الطوفان الجاي» بعد أن سمعت الديوان كاملا بصوته، وسألني: مش عادتك يعني.. عاوزه في إيه؟، فقلت له: سأنشر مقتطفات منه في ملحق ثقافي، ضحكك عم سيد وقال: تراهنني إن الصحيفة سترفض نشر المقتطفات؟، قلت له أراهنك، وصدر الملحق في صيف يونيو يوم زيارة أوباما للقاهرة، وجاءني صوت سيد حجاب متهللاً: كان عندك حق.. رياح التغيير قادرة على فتح نوافذ الأمل.. أنت كسبت الرهان.

(6)

كنا قبل ثورة يناير بأقل من عامين، وحراك التغيير تهز جدران القصور الآيلة للسقوط، لكن أحدا لم يكن يتوقع أن تندلع الثورة بالشكل الذي اندلعت به، وكان من تلك المقتطفات، أبيات يصعب نشرها في صحيفة يومية عامة، إلا إذا كان لذلك دلالة، ومنها:

«تاج راس سلالات الجهالات الطغاة الصغار/ ذوي المقامات والمذمات اللصوص الكبار/ أصحاب جلالة العار/ أصحاب فخامة الانبطاح والسعار/ أصحاب سمو الخسة والانحدار/ أصحاب معالي الذلة والانكسار (…)

(7)

يا أجبن الحكام / يا غرقانين في طين جهالة وعطن/ مفيش سلام بين بندقاني وحمام/ والديب ما زال ديب مهما غنى ورطن/ يا أجهل الأصنام / يامهرولين بره التاريخ والزمن/ الاستيطان … عمره ما يبقى وطن.

(8)

كأن عم سيد يحارب معركة الاستيطان الصهيوني المشتعلة الآن، فاضحاً أصحاب معالي المذلة والانكسار، ويصفهم قائلاً:

«كل اللي لابدين فوقنا ومأبدين/ ياللي إنتو مش منا/ ولا إنتو أصحاب فضل ولا منة/ بس إنتو حاكمينا.. وشاكمينا.. وظالمينا/ بالجهل والعجرفة (…) يا عقول قديمة خالية م المعرفة/ عديمة القيمة.. ماليها إلا “القديمة” شفا (…) يا قلوب سقيمة.. سئيلة.. مستظرفة/ توعد وتخلف.. ومجافية الوفا/ يا ديول خيول منفوشة متزخرفة/ حقيقتها باينة لكل مين له عينين/ ح تعملوا إزاي في الطوفان الجاي؟ / ح تهربوا لفين منه ياغفلانين؟…

ح تهربوا لفين منه ياغفلانين؟

(9)

عم سيد.. صياد الأمل والصبر الذي سافر في رحلة أبدية، ترك كلماته قمراً للهدى والونس فوق ليل البحيرة، بعد أن كتب لها غزلية وفاء واعتراف بالجميل:

«عيونك الزهزاهة.. لولاها.. كنت غرقت في البلادة.. والبلاهة»… يا كلمتي.. يا بلدي.. يا مصر

كل سنة وانت طيب يا عم سيد

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه