الفقه الإسلامي والمسح على الجوارب

 

حاجة المسلم للمسح على الجوارب:

تكثر أسئلة المسلم في الشتاء وغيره، تبعا لوظيفته التي تتطلب منه بقاءه فترة طويلة مرتديا جوارب، أو خُفًّا (حِذاءً)، ويؤدي خلعه له إلى مشقة عند الوضوء، أو تكاسلا عن الصلاة، وتلك شكوى متكررة للمسلمين في كل زمان ومكان، وقد بين العلامة جمال الدين القاسمي في رسالته: (المسح على الجوربين)، شكاوى المسلمين في زمنه في البرد والشتاء، من مشقة خلع الجوارب، واحتياجهم للمسح عليه عند وضوئهم، مخافة إصابتهم بالبرد، وتقشف القدمين من كثرة استخدام الماء.[1]

فإذا كان هذا كلام القاسمي منذ أكثر من مئة سنة، وتلك شكوى الناس وقتها، وكان التمسك والالتزام بالصلاة أكثر، فما بالنا والتفلت من أداء التكاليف يزداد مع المشقة، وهو ما يدعو الفقيه المسلم للنظر للتيسير على الناس في أحكام الشرع، وبخاصة فيما هو موضع خلاف ونقاش بين الفقهاء، فكل فقيه اجتهد لزمانه بما يتناسب معه، بما لا يخالف ثوابت الدين.

وسوف نتناول هنا حكم المسح على الجوربين الخفيفين، وهل هناك مدة محددة للمسح على الجوارب، وهل ينتقض بخلعه أم لا؟ وهل يشترط لبسهما على طهارة أم لا؟ فهذه هي أهم الإشكالات والقضايا التي يحتاجها المسلم في هذا الوقت للإجابة عنها في هذه المسألة.

حكم المسح على الجوارب:

أجاز الشرع الحنيف المسح على الخفين والجوربين عند الوضوء، وذلك تيسيرا وتخفيفا على المسلم، وبخاصة من يجد صعوبة في خلع خفه، أو جوربه، سواء كان لطبيعة الجو من برودة، أو من طبيعة عمله، كبعض المهن، مثل الجندي في الجيش، أو العامل في المصنع، أو من في حكمهم وحالتهم، فكثير من أصحاب هذه المهن وغيرها يجد المشقة والعنت في غسل رجليه عند الوضوء، أو أخذا بهذه الرخصة من دون سبب ولا مشقة.

وقد اختلف الفقهاء في جواز المسح على الجوربين، بين مانع ومجيز، فقد منعه: الشافعية، والمالكية، وأجازه من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث. [2]ومن السلف: سفيان الثوري، وإسحق[3]، ومن الفقهاء: الأحناف، أبو يوسف ومحمد، وخالفهما أبو حنيفة، ولكنه رجع إلى قولهما، فقد حكي: أن أبا حنيفة رحمه الله في مرضه مسح على جوربيه، ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه. وعليه الفتوى في المذهب. [4] والحنابلة. [5] وقد استدل المجيزون بما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: “أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين”.[6]

حكم المسح على الجورب الرقيق والشفاف:

من الفقهاء من اشترط في الجور الممسوح عليه أن يكون مجلدا، أي طبقته الخارجية من جلد، ومنهم من اشترط أن يكون ثخينا (سميكا)، ومنهم من لم يشترط ذلك فأجاز المسح على كل جورب، والراجح: جواز المسح على الجوربين مهما كان وصفهما، ثخينين، أو شفافين، أو رقيقين، ترى منه البشرة أم لا ترى، لأن النصوص وردت بمطلق المسح، وقد قال بجواز المسح على الجورب وإن كان رقيقا: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو يوسف، ومحمد، وإسحق، وداود. [7] ومن المعاصرين: محمد رشيد رضا[8]، وجمال الدين القاسمي، وأحمد شاكر، والقرضاوي، والألباني، وابن عثيمين. وغيرهم.

ولأن شرط عدم نفاذ الماء منه الذي وضعه بعض الفقهاء، شرط لا يتحقق، فمهما كانت ثخانة الجورب يصل إليه الماء. وقد يقول قائل: إن علة المسح البرد، وأن الجورب الخفيف لا يدفيء، ولا يلبس إلا في الحر فقط، والجواب عنه: أن الجوارب درجة دفئها لم تعد كما كانت من قبل تعتمد على ثخانتها، بل تعتمد على المادة المكون منها الجورب، وهو ما اتجهت إليه الصناعات الحديثة الآن، فقد يكون الجورب شفافا لكنه يحتوي على مواد تشعر الجسد بالدفء، وقد يكون ثخينا ويزيد من برودة الإنسان. (ولأنه ليس المقصود من جواز المسح على الجورب ونحوه أن يكون ساترا؛ فإن الرِّجل ليست عورة يجب سترها، وإنما المقصود الرخصة على المكلف والتسهيل عليه).[9]

وأما من اشترط أن يكون الجورب مجلدا، فيقول المباركفوري: (هذا القول لا يثبت، إلا بعد أن يثبت أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي صلى الله عليه وسلم كان مجلدين، ولم يثبت هذا قط.

ولو كان الحكم يختلف بين ما كان مجلدا أو غير مجلد، لبين هذا الصحابة رضوان الله عليهم، وهم ينقلون لنا جواز المسح على الجوربين، ولو كان الحكم يختلف لجاء نهي من الشرع أو من الصحابة عن المسح على الجوربين إذا كانا من صوف أو قطن، فالعام والمطلق يعمل به على عمومه وإطلاقه). [10]

كما أن الشرع أجاز المسح على الجوربين بإطلاق واشتراط أن يكون الجورب ثخينا أو مجلدا لم يرد به نص من الشرع فظلت الرخصة على أصلها.

هل يشترط لبس الخفين والجوربين على طهارة؟

اتفق الأئمة الأربعة على اشتراط أن يكون لبس الخف أو الجورب – لمن يجيز المسح عليه – على طهارة، ولكن داود الظاهري لا يرى ذلك، وهو ما نميل إليه، فهو يرى المراد بـ (طاهرتين) في الحديث الشريف: الطهارة من النجاسة، فإذا لم تكن على رجليه نجاسة حال اللبس، جاز له المسح. [11] ولأنه حمل الطهارة هنا على الطهارة اللغوية. [12]

مدة المسح على الخفين والجوربين:

لقد اختلف الفقهاء في مدة المسح على الخفين والجوربين، فالجمهور يرى أن المسح له مدة مؤقتة، للمقيم يوم بليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة”.[13]  

ويرى مالك والليث بن سعد والشافعي في مذهبه القديم[14]: أن المسح لا توقيت له، وبه قال من الصحابة: عمر، وابن عمر، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء،[15] وسعد بن أبي وقاص، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف،[16] ومن التابعين: الحسن، وعروة والزهري. [17] وحجتهم كذلك: أنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الرأس.[18]

وقد حكي عن ربيعة أنه قال: لم أسمع في المسح على الخفين وقتا قال أبو بكر: وقد احتج بعض من هذا مذهبه بحديث روي عن عقبة بن عامر أنه قال: خرجت من الشام إلى المدينة، فخرجت يوم الجمعة، ودخلت المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب، فقال: “متى أولجت خفيك في رجليك”؟ قلت: يوم الجمعة، قال: “وهل نزعتهما؟” قلت: لا، قال: “أصبت السنة”، ومنهم من روى أنه قال: أصبت ولم يقل السنة. وعن ابن عمر قال: “امسح على الخفين ما لم تخلعهما”.[19]

ومن القواعد الفقهية عند المالكية قاعدة: (طهارة الأحداث لا تتوقت)، وقد شرحها شراح القواعد بما يلي: إذا تطهر الإنسان من الحدث بالوضوء أو الاغتسال فإنه يبقى طاهرا ولا تتحدد الطهارة بوقت فتنقض بمضيه، ويبقى الشخص على تلك الطهارة إلى أن يُحدث، ولا دخل للزمن في انتقاض طهارته. [20]

يستثنى من ذلك ما إذا ظل الجورب مدة زمنية تغيرت فيها رائحته، فصدرت منه رائحة كريهة، وهنا يخلعه ويستبدله بجورب آخر، لا لعلة النقض، بل لعلة الرائحة.

هل يتنقض المسح بخلع الخف أو الجورب؟

الجمهور على النقض، وما نختاره: عدم النقض، وهو ما روي عن الحسن وعطاء وقد سئلا عن رجل توضأ ومسح على خفيه ثم خلعهما؟ قالا: يصلي، ولا يغسل قدميه. [21]

ونواقض المسح على الخفين والجوربين، هي نفسها نواقض الوضوء.

الخلاصة:

المسح على الجوارب أيا كانت سميكة أو رقيقة جائز، وليس شرطا أن يلبسه على طهارة كاملة، ما لم يكن به نجاسة على موضع المسح، ويمسح في أي مدة بدون تقيد بالزمن سواء كان مسافرا أو مقيما، ولا ينتقض المسح بالخلع، بل ينتقض بنواقض الوضوء.

ملحوظة: هذا المقال هو نموذج لكتاب أقوم بكتابته في الفقه الإسلامي، يقوم على التيسير على المسلم من حيث طريقة عرض الفقه، ومن حيث تبني أيسر الآراء الفقهية بالدليل، نحسن به مخاطبة جمهور المسلمين وعامتهم. وأسعد بأية ملحوظات منهجية أو تصويبات حول الفكرة أو النموذج.


[1] انظر: المسح على الجوربين لمحمد جمال الدين القاسمي ص 17،16.

[2] انظر: نيل الأوطار للشوكاني (1/171).

[3] انظر: معالم السنن للخطابي (1/116).

[4] انظر: المبسوط للسرخسي (1/102) والبناية في شرح الهداية للعيني (1/611) والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي (1/25) ودرر الحكام لمنلا خسرو (1/36) وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص: 103.

[5] انظر: الفروع لابن مفلح (1/196).

[6] رواه أبو داود (159) والترمذي (99) وابن ماجه (559) وأحمد في المسند (18206) وابن حبان (1338) وصححه أحمد شاكر، وشعيب الأرناؤوط، والألباني .

[7] انظر: المجموع للنووي (1/527).

[8] انظر: تعليقات الشيخ رشيد رضا على هامش المغني والشرح الكبير (1/298).

[9] انظر: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (11/167).

[10] انظر: موسوعة أحكام الطهارة لأبي عمر دبيان محمد الدبيان (5/78).

[11] انظر: العدة على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للصنعاني (1/234).

[12] انظر: بداية المجتهد لابن رشد ص 23. وتفسير المنار لرشيد رضا (5/201).

[13] رواه أحمد (749) ومسلم (276) وابن حبان (1322) عن علي رضي الله عنه.

[14] انظر: البيان للعمراني (1/149).

[15] انظر: الحاوي الكبير للماوردي (1/354،353).

[16] انظر: المصنف لابن أبي شيبة (2/266) الآثار: (1945-1949).

[17] انظر: الحاوي الكبير للماوردي (1/354،353).

[18] انظر: البيان للعمراني (1/149).

[19] انظر: الأوسط لابن المنذر (2/86-89) بتصرف شديد.

[20] انظر: الإشراف (1/15)، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 39. والقواعد الفقهية للروكي ص 393، والقواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة للدكتور محمد الزحيلي (1/652).

[21] رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1982) (1/188).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه