عامر عبد المنعم يكتب: أمريكا المتهاوية في خطاب ترمب

عامر عبد المنعم*

العالم على موعد مع كابوس، والقلق يسود الغرب قبل الشرق بسبب قدوم رئيس أمريكي متهم بالتهور، كأنه كاوبوي ممسك ببندقية، يطلق النار في كل الاتجاهات، مشحونا بالكراهية، داعية للعنصرية، لا أحد يتوقع ردود أفعاله، ووسط هذه الأجواء الغاضبة تم تنصيب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة، في احتفال لم يحظ بالحضور الجماهيري المعتاد مع الرؤساء السابقين.
البداية غير مبشرة، ليس لمن يهددهم فقط وإنما لمن يحكمهم أيضا، فالرئيس المثير للجدل تسبب في الانقسام داخل المجتمع الأمريكي قبل أن يبدأ، وأظهر قدرته الفائقة على حشد الداخل والخارج ضده قبل أن يدخل البيت الأبيض.
جاءت كلمات ترمب عقب أداء القسم بطريقة مختلفة، ليست كخطبة لرئيس دولة، مدروسة ومعدة جيدا، وإنما عبارات متقطعة، على هيئة عناوين مبتورة لمجموعة من الأفكار المتناثرة، محورها أنه المنقذ للشعب الأمريكي من التردي والانهيار الذي يعيشه، ولا توجد أي رؤية تدل على تفكير استراتيجي غير موقفه المتعصب ضد المسلمين.
من أخطر ما ورد في كلمة ترمب تأكيده على تشكيل تحالفات جديدة وتوحيد العالم ضد “الإسلام الراديكالي المتطرف” الذي قال أنه سيجتثه “من على وجه الأرض” وهذا الموقف يتماشى وتصريحاته السابقة التي تسير في اتجاه إعلان الحرب على ما يسميه “الإرهاب الإسلامي”، وهذه المرة وسع من دائرة الاستهداف لتشمل المتشددين والمتطرفين، ولم يقتصر على من يتهمهم بالإرهاب، وهذا معناه اتساع نطاق المعركة وفقا للتفسير الأمريكي العنصري للتشدد والتطرف.
استدعاء الحرب الصليبية
من الواضح أن ترمب يقدم نفسه في أول خطاب له على أنه محارب صليبي ضد المسلمين، فبالإضافة للطقوس الكنسية وكلمات المتحدثين التي بها استشهادات إنجيلية، كان هناك تعمد أن يرسل الاحتفال رسالة ضد الإسلام كدين، حيث حضر ممثلو المسيحية بمذاهبها واليهودية ولم توجه الدعوة لممثل للمسلمين في الولايات المتحدة، وهذا الاستبعاد الذي سبقه تجاهل كامل أثناء الحملة الانتخابية، يؤكد أن الإدارة الأمريكية الجديدة تتخذ موقفا معاديا وغير متسامح مع الأقلية المسلمة، وهنا تبدو الهواجس والمخاوف من شيوع روح عنصرية جديدة ضد الإسلام في الداخل الأمريكي.
ترمب ليس لديه مشروع واضح لمواجهة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه الولايات المتحدة، كما أن أفكاره المتطرفة أزعجت كثيرين، ومن غير المنتظر أن يحقق أي إنجازات على المدى القصير، وهذا ما يجعله يقدم على اختراع معركة صليبية لحشد الأمريكيين خلفه.
ليس أمام ترمب شيئ كثير يفعله ضد المسلمين المتهمين بالإرهاب أو بالتشدد أو بالتطرف أكثر مما فعله أوباما، ومما فعله جورج بوش، بل إن حرب بوش وخسائرها العسكرية والاقتصادية هي التي قضت على الحلم الإمبراطوري الأمريكي، وبددت الآمال بانفراد أمريكا بإدارة العالم، وأوصلت الولايات المتحدة إلى حالة الضعف والانكسار التي تحدث عنها ترمب في خطاب التنصيب بكل صراحة.
لقد اعترف ترمب بالتراجع والانكسار الأمريكي من خلال التأكيد أكثر من مرة على أنه سيعمل على إصلاح أمريكا من الداخل واستعادة مكانتها الضائعة، ودارت كلمته حول الأزمات التي تعصف بأمريكا وكأنها من دول العالم الثالث، ولم يتطرق ترمب للقضايا الخارجية وانصب اهتمامه على المجتمع المنقسم و المنهار، وقال أن شعاره هو أن “أمريكا أولا”.
انهيار الاقتصاد وتفكك المجتمع
قدم ترمب صورة سوداوية للولايات المتحدة غير تلك التي يحاول الساسة والإعلاميون الأمريكيون تقديمها، وأظهر أمريكا ضعيفة متهاوية، تعاني من الانهيار الاقتصادي وتعيش حالة من التراجع، فالأمهات والأطفال في المدن “يحاصرهم الفقر” والمصانع أغلقت أبوابها و”ضربها الصدأ مثل شواهد القبور” وتركت وراءها ملايين العمال الأمريكيين يعانون من البطالة، والنظام التعليمي فاشل يترك الشباب والطلاب “محرومين من المعرفة” والمجتمع يعاني من الفساد حيث تنتشر “الجريمة والعصابات والمخدرات التي سرقت حياة الكثيرين”.
وتحدث وكأنه رئيس دولة نامية، فقدم وعودا لا تختلف كثيرا عما يتردد في دول العالم الثالث مثل قوله “سنبني طرقا جديدا، وطرقا سريعة جديدة، وجسورا ومطارات وأنفاقا وخطوط سكك حديد في جميع أنحاء بلادنا الرائعة” وخاطب الملايين من الفقراء الأمريكيين الذين يعيشون على كوبونات الطعام وقال “سنرفع مواطنينا عن قوائم المعونات”.
وتقمص ترمب الرأسمالي العتيد شخصية الشيوعي الكاره للبورجوازية، وحمل مسئولية التدهور الأمريكي للطبقة السياسية المقيمة في العاصمة واشنطن فقال “ازدهرت واشنطن، لكن الشعب لم يحصل على حصة من ثروته” و”ازدهر السياسيون، ولكن تركت الأعمال وأغلقت المصانع” وكشف معارضوه على مواقع التواصل الاجتماعي أن جملة ” ننقل السلطة من واشنطن العاصمة ونعيدها إلى الشعب الأمريكي” مقتبسة من بطل شرير في فيلم أمريكي!
الانسحاب من العالم
من الرسائل المهمة التي أعلنها ترمب أنه بصدد الانسحاب من العالم، وليس كما يبدو من تصريحاته الصاخبة، فهو ضد الإنفاق العسكري المرتبط بالتمدد الإمبراطوري الأمريكي في الخارج، وهو يرفض تقديم الدعم المالي لجيوش الدول الحليفة ( مصر ثاني أكبر متلق للمعونة العسكرية الأمريكية) ويقول: “قدمنا الدعم المالي لجيوش دول أخرى بينما سمحنا بالتدهور المحزن جدا لجيشنا” ويزعم أن حروب أمريكا السابقة ليست من أجل إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي وإنما كانت للدفاع عن دول أخرى وتسببت في تدهور أمريكا، ويستنكر التكلفة العالية للحروب بإنفاق “تريليونات وتريليونات الدولارات في الخارج بينما تقادمت البنى التحتية الأمريكية وأصبحت متدهورة ومتداعية” أي أن الأولوية الآن هي الإنفاق على البنية الأساسية لا الحروب الاستباقية.
ومن المعروف أن تكلفة حرب العراق وأفغانستان هي التي أدت إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي الذي مازال يعاني حتى الآن، حيث تتراوح تكلفة حربي العراق وأفغانستان حسب الدراسة الموثقة التي أعدها الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز بين 4 و5 تريليونات من الدولارات، لكن هدف ترمب من ترديد مزاعمه لابتزاز حكومات الخليج ومصادرة أموالهم في الولايات المتحدة، ولهذا قال ملمحا: “لقد جعلنا دولا أخرى غنية بينما اختفت ثروة وقوة وثقة بلادنا” وهذا هو توجه المحافظين والذي تأكد بصدور قانون “جاستا” لملاحقة الدول وليس فقط الأشخاص المتهمين بالإرهاب.
الانكفاء على الداخل
ترمب غير مهتم بالقضايا الخارجية؛ فلم يتحدث عن عودة الحرب الباردة، ولم يشر إلى موقف الولايات المتحدة من الخطر الذي تشكله روسيا التي تزيح النفوذ الأمريكي الآن من المنطقة العربية، ولم يتناول التحدي الصيني من قريب أو من بعيد، وركز على الانكفاء على الداخل والتوقف عن تصدير القيم الأمريكية، ويؤكد هذا بقوله: “لا نسعى إلى فرض طريقة حياتنا على أحد” وأشار إلى أن الرؤية الجديدة لأمريكا “من هذه اللحظة فصاعدا ستكون أمريكا فقط أولا. أمريكا أولا” ولعب على وتر تخويف الأمريكيين من الخطر العابر للحدود بتأكيده على أنه “يجب أن نحمي حدودنا من الآثار التخريبية للدول الأخرى التي تصنع منتجاتنا وتسرق شركاتنا وتدمر فرصنا الوظيفية. إن الحماية ستقود إلى ازدهار عظيم وقوة عظيمة”.
رؤية ترمب دفاعية وليست هجومية فهو مهتم ببناء الأسوار والجدران وليس تشييد الجسور مع الآخرين،وهو يدعو المجتمع للتماسك الوطني ليتناغم مع استراتيجيته الجديدة، ومن أجل هذا شهد خطابه تكرارا وتأكيدا على استعادة الروح الوطنية فخاطب الأمريكيين ناصحا: “عندما تفتح قلبك للوطنية، لن يكون هناك مكان للتحيز”، وربط الوطنية بالدين فاستدل بجملة من الإنجيل “ما أجمل أن يعيش شعب الله معا في اتحاد”. وقال إن “الشعور بالاعتزاز الوطني مجددا سيحرك أرواحنا ويداوي انقساماتنا” وهذا يكشف عمق الأزمة داخل المجتمع الأمريكي.
وضرب ترمب أمثلة مثل لون الدم الواحد للمواطنين الأمريكيين الذين تختلف ألوانهم، وطالب بتقوية الانتماء والولاء مؤكدا أن القواعد الرئيسية لسياسته “الولاء التام للولايات المتحدة” وحدد لتنفيذ رؤيته قاعدتين وهما “اشتروا المنتجات الأمريكية ووظفوا المواطنين الأمريكيين”، مما يذكرنا بقادة التحرر الوطني في بلادنا المطالبين بالاستقلال الاقتصادي!
***
ستكشف الأيام القادمة أننا أمام رئيس أمريكي ضعيف على عكس ما قد يبدو من تصريحاته الصاخبة والجدل المثار حوله؛ فالمعارضة الخارجية والداخلية التي تنتظره ستفشل مشروعه، وستصطدم محاولته للهروب والبحث عن معركة سهلة ضد المسلمين لتحقيق انتصارات إعلامية ترضي المتعصبين بواقع مجتمعي واسع، لن يقبل بتكرار تجربة الهنود الحمر والسود الأفارقة، وظهر ذلك في اليوم التالي لحفل التنصيب في المسيرات التي عمت الولايات الأمريكية وفي مقدمتها العاصمة واشنطن حيث تظاهر في مكان الاحتفال ضعف المشاركين من مؤيدي ترمب.

___________________

* كاتب وصحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه