طه خليفة يكتب: العالم الحر .. والعالم الآخر !

طه خليفة*

من المفارقات أنه في اليوم نفسه، 20 يناير 2017، يجتمع العالم الحر، مع العالم الآخر، في نفس المشهد، لكن مع الفارق الهائل، الذي لا يمكن تقريبه، ولا تضييقه بينهما، العالم الحر كان في أمريكا، والعالم الآخر، كان في غامبيا.

أمام مبنى الكونغرس الأمريكي كان العالم يتابع عبر الشاشات تسليم وتسلم السلطة بنظام وسلاسة في أكبر وأهم دول العالم الحر، وفي مظهر حضاري يتكرر بانضباط تام كل 4 سنوات، أو 8 سنوات، بينما في غامبيا الدولة الصغيرة مثل الجيب داخل السنغال في قارة أفريقيا كان العالم الآخر، يحيى جامع الرئيس المهزوم في الانتخابات يتحصن وراء جدران، ويحتمي بميليشيات، ويرفض تسليم السلطة لخصمه السياسي أداما بارو، الفائز بالانتخابات.

في العالم الحر كان الرئيس المنصرف باراك أوباما يحتسي هو وزوجته الشاي صباحا، مع الرئيس الجديد دونالد ترمب وزوجته، في تقليد أمريكي راسخ، ليكون ذلك آخر جلوس وآخر مشروب له في البيت الأبيض كرئيس، قبل مغادرته مع ترمب لحضور حفل تنصيبه، ولم يكن أوباما وحده في الاحتفال البهيج، إنما كان معه، ثلاثة رؤساء سابقين هم : جيمي كارتر، وبيل كلينتون، وجورج بوش الإبن، ولولا مرض جورج بوش الأب لكانوا أربعة، بينما في العالم الآخر، كان هناك رئيسان مع الرئيس المهزوم المتمرد على الشرعية، والمرفوض دوليا، هما رئيسا موريتانيا وغينيا في محاولة أخيرة منهما لإقناعه ليس بالتنحي وتسليم السلطة وهو صاغر فقط، بل مغادرة غامبيا إلى منفى خارجي، وإلا فإن قوات خمس دول من منظمة غرب إفريقيا ستواصل تقدمها وتعتقله، وتلك القوات دخلت غامبيا يوم الخميس 19 يناير 2017 مع انتهاء رئاسة جامع، ربما يكون الرئيسان الوسيطان قد أعادا تذكير جامع أن رئيسا سابقا لدولة قريبة منه هى ساحل العاج كان قد تمرد مثله قبل عدة سنوات، ثم كانت النهايه اعتقاله بملابسه الداخلية مهانا ذليلا في مشهد كان مقصودا فرنسيا ودوليا لأنه تمرد على الشرعية التي أفرزتها الانتخابات، ورفض تسليم السلطة بشكل سلمي، هذا الرئيس هو لوران غباغبو، وقد تمادى في عناده، لكن الفرنسيين بعدما يئسوا من أن يحتكم لعقله قاموا بغارة عليه ووضعوا حدا للعبته العبثية.
لماذا أذل غباغبو نفسه إلى هذا الحد بعد أن كان رئيسا له احترامه القاري والدولي؟، ولماذا يكرر جامع نفس الغلطة؟، ألا يقرأ التاريخ الحديث؟، ألم يفهم أن ورقته سقطت، وأن دول الجوار، وأمريكا، والدول الكبرى، رحبت بفوز مرشح المعارضة، وأن مجلس الأمن أصدر قرارا بالإجماع يفوض فيه منظمة دول غرب إفريقيا ببذل الجهود لإجباره على تسليم السلطة؟، وكان ذلك أشبه بضوء أخضر بالتدخل وفرض الواقع الديمقراطي على المستبد الصغير الذي يثبت أنه ضيق الأفق محدود الفهم.
إذا كان ممكنا لرئيس أن يعرقل تسليم السلطة لرئيس آخر فكان أولى أن يفعلها أوباما، لأن ترامب هو أسوأ من قذفت به صناديق الانتخابات الأمريكية منذ عقود طويلة، وهو رئيس شعبوي يميني متطرف يمثل خطرا على أمريكا نفسها وعلى العالم، وقد وصفه الدكتور مأمون فندي بأنه يمثل فاشية جديدة، وأن خطابه يوم التنصيب فيه رائحة هتلر، وهذا قليل من كثير جدا تقوله النخب الأمريكية عنه بمختلف تنويعاتها، ولا يختلف عنهم المواطنون الذين خرجوا يتظاهرون ضده بعد فوزه في 8 نوفمبر 2016، وكذلك يوم تنصيبه، وحجم الرفض له داخل الحزب الجمهوري الذي ترشح باسمه أكبر مما كان يتصوره أحد، وليس مستبعدا ألا يكمل فترته الرئاسية، قد يتم عزله لو خرج عن قواعد السياسة الأمريكية التي لا تتغير بتغير اسم الرئيس، أو الحزب الذي ينتمي إليه، لكن أوباما أشد المنتقدين لـ ترمب لم يتشبث بالسلطة لأنه لا يقدرعلى ذلك، وإن كان قد تندر بأنه لو كان ترشح لفاز للمرة الثالثة، وقد هنأه بمجرد فوزه، واستقبله في البيت الأبيض، ودعا لتسليم وتسلم السلطة بسلاسة، كما دعا لضرورة التعاون معه من أجل أمريكا، تلك منظومة ديمقراطية ثابتة وراسخة منذ جورج واشنطن أول رئيس منتخب في أمريكا عام 1789، وهذا سر بقاء ونجاح أمريكا وتحولها إلى قوة عظمى وحيدة بينما منافسها الاتحاد السوفيتي تفكك وأنهار وأحد الأسباب المهمة في ذلك هو غياب منظومة الديمقراطية عنه، تلك المنظومة التي كما أفرزت أوباما أول رئيس أسود مثقف منضبط، فإنها أفرزت أيضا ترمب رجل الأعمال داعية الكراهية المنفلت، لكنه مع ذلك فهو ليس حرا في أن يفعل ما يشاء، بل سيظل محكوما بالدستور والقانون والمؤسسات والقسم، علاوة على مؤسسات الرقابة الإعلامية والمدنية والشعبية، وأي خروج عن ذلك قد يكلفه منصبه، أما إذا عدنا إلى غامبيا فليس هناك مبرر للرئيس المتمرد يحيى جامع لمنع تداول السلطة، فقد جرت انتخابات نزيهة تحت رئاسته، ولا نعلم كيف أفلتت تلك النزاهة من بين يدي رئيس وصل للحكم بانقلاب عسكري منذ 22 عاما، وفاز فيها مرشح المعارضة، واعترف جامع بالهزيمة، وهنأ خصمه، ثم تراجع، وأخذ يعرقل تسليم السلطة، لكن كل محاولاته باءت بالفشل لأن القوى الاستعمارية السابقة أرادت إنهاء دوره، وكذلك دول غرب أفريقيا التي بدأت الديمقراطية تنمو في بعض دولها وتريد لبذرتها أن تنمو في غامبيا أيضا، علاوة على شطحات جامع في الحكم خلال سنواته الأخيرة.
صحيح أنه لا تجوز المقارنة بين أمريكا الرافعة الكبرى للعالم الحر، ونواته الصلبة، وأم الديمقراطيات الحديثة، وبين شبه دولة مثل غامبيا تطل على العالم فقط من خلال مساحة محدودة على المحيط وبقية حدودها مع السنغال، لكن نقطة الالتقاء بين الديناصور والنملة، هو جوهر الديمقراطية، صندوق الانتخاب والورقة التي يضعها فيه المواطن، هذا هو مظهر الديمقراطية الثابت والعالمي والذي لا يختلف بين بلد عملاق وبلد قزم، قد تختلف بعض الأساليب الإجرائية في الانتخابات، لكن في النهاية هى تعبير عن إرادة الناخب، عن إرادة شعبيه، انتخابات 8 نوفمبر الماضي في 50 ولاية أمريكية، هى نفسها انتخابات مطلع ديسمبر في غامبيا، ونتيجتها واحدة، فائز هو ترمب، وخاسر هى هيلاري، وفي غامبيا، فائز هو أداما بارو، وخاسر هو يحيى جامع، وهكذا في كل تجارب الديمقراطية في العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه نجد المظهر والآلية والنتيجة واحدة ومشتركة بين الجميع، لكن الفارق بين تجربة وأخرى مثل أمريكا وغامبيا هو مدى رسوخ التجربة، ومدى الإيمان بها، إيمان مؤسسات الدولة وقواها الصلبة رسمية وشعبية ومدنية، أمريكا تجذرت فيها الديمقراطية وصارت نمط حياة ونهج حكم حتى لو كانت مع شعبوي مثل ترمب، فهى قادرة على استبداله بعد 4 سنوات، والإيمان بالديمقراطية صار عقيدة سياسية، حيث يستحيل الانقلاب عليها، فلا يجرؤ أحد على ذلك، نص القسم يشدد على احترام الدستور والحفاظ عليه والإخلاص له، وبالتالي أي خروج على الدستور يمثل انتهاكا للقسم، وقد يقود إلى عزل الرئيس ومحاكمته، العبث بالدستور، وبقيم الديمقراطية الليبرالية لا يستطيع أحد تحمل نتائجهما، هكذا في أمريكا، وفي كل بلدان العالم الحر، العالم الحي، أما في غامبيا فالتجربة لا جذور لها ، مجرد فلتة نزاهة أحدثت انقلابا سياسيا مشروعا ومرحبا به، ثورة بالصندوق تعصم البلدان من أضرار الثورات الأخرى حمراء كانت أو حتى بيضاء كما حصل في الربيع العربي حيث الحاضنة الآمنة للديمقراطية غائبة، والمنظومة المؤمنة بالديمقراطية التي تحترمها وتحميها من الثورات المضادة مفتقدة، لذلك تظل غامبيا وأخواتها الصغرى والكبرى في أفريقيا القارة الملعونة بالاستبداد والحروب الأهلية بسبب الصراعات على السلطة، وكذلك في كل قارة ومنطقة مشابهة، تظل هى العالم الآخر، عالم الغياب عن الحياة، عالم الموت العقلي والحضاري.

_______________________

* كاتب وصحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه