عبد القادر عبد اللي يكتب من أنقرة: غولن إمبراطور زاهد

عند استعراض القوة التنظيمية، والقدرة المالية، والتغلغل في البيروقراطية المدنية والعسكرية التركية، وشبكة العلاقات العالمية نجد أن جماعة غولن فعلاً تحظى ببنية دولة. يتبع

عبد القادر عبد اللي*


اكتسب اسم فتح الله غولن زخماً كبيراً اليوم إثر الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا. ولكن اسم الرجل لم يغب عن الإعلام التركي في أية مرحلة من المراحل على مدى نصف قرن. إنه داعية إسلامي صوفي حنفي يعتبر نفسه امتداداً لحركة سعيد نورسي التي نشأت مع بداية تأسيس الجمهورية، وهناك كثير من الباحثين يعتبرونه المؤسس الثاني للإسلام السياسي في تركيا الحديثة بعد سعيد نورسي. ولذلك تسمى حركته حركة النور لأنها تتبنى رسائل النور التي كتبها نورسي حول الرؤى التجديدية في التفسير.

يقيم غولن في ولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ عام 1999 التي سافر إليها بسبب مشاكل صحية.
دخل فتح الله غولن عقول الناس حاملاً بعداً أسطورياً باعتباره الرجل الغامض القوي الذي يجب أن ينضوي تحت جناحيه كل طامح لمنصب في الجمهورية التركية.
وقع الشقاق بينه وبين العدالة والتنمية عام 2013، وأطلقت عليه حكومة هذا الحزب اسم “الكيان الموازي” وهي إشارة إلى كيان دولة داخل دولة، وصنفت مجموعته مجموعة إرهابية، ولكن أية دولة في العالم لم تعترف بأنها إرهابية.
تتعدد مجالات نشاط حركة فتح الله غولن التي تسمي نفسها “الخدمة” في مختلف الميادين، ولعل هذا ما يجعلها تُشبَّهُ بالدولة.

التعليم:
لم يدرسْ غولن في التعليم النظامي سوى إلى الصف الثالث الابتدائي، وحصل على الشهادة الابتدائية بدخوله امتحانها حراً. وقد تلقى دروساً دينية، وتعلَّم اللغات العربية والفارسية والعثمانية من والده إمام الجامع، ومن مدرسين آخرين.

والجماعة التي يقودها اليوم تدير واحدة من أكبر الإمبراطوريات التعليمية في العالم، فشبكة مدارسه تمتد على العالم كله تقريباً، وتتركز على الأغلب فيما يسمى الجمهوريات التركية وسط آسيا. وبالطبع هناك إلى جانب المدارس التي يمتلكها سلسلة من بيوت الطلبة الصغيرة التي تعتبر حجرات للتعبئة الدينية والسياسية، والتدريب على الانضباط الصارم، ويمكن القول إن شبكته التعليمية تبزُّ كثيراً من المؤسسات التعليمية لكثير من الدول، وهو يختلف عن رجال الدين الآخرين بتجنبه إعطاء ثقل لدروس الدين في مدارسه، ولكنه يولي هذا الأمر اهتماماً في بيوت الطلبة خارج المدارس. وهناك من يفسر هذه الظاهرة بالتقيّة.

الإعلام:
دخل غولن عالم الإعلام سنة 1979 كرئيس تحرير لمجلة “صظنتي” [تسرّب]، وكان يكتب فيها. وإثر انقلاب 1980 العسكري الذي قاده كنان إفران، قيل إنه كان مطلوباً لسلطات الانقلاب. ولكنه لم يُقبض عليه، وقضى فترة يتجول في مدن الأناضول عند مريديه، وفي النهاية استقال من عمله كمدرس وإمام في مساجد رئاسة الشؤون الدينية التي تتبع رئاسة الحكومة.
وفي عام 1988 عمل رئيس تحرير مجلة “يني أوميت” [الأمل الجديد].
لكن عمله في الإعلام تطور كثيراً، وباتت جماعته واحدة من أكبر الإمبراطوريات الإعلامية، ولديها وكالة أنباء كبرى هي “جيهان” ويتبع لها تلفزيون بالاسم نفسه، إضافة إلى مجموعة فظا [فضاء] الإعلامية التي تصدر العديد من الدوريات منها جريدة زمان بأكثر من لغة أهمها الإنجليزية والعربية غير التركية، وهناك جريدة ميدان ومجلة أكسيون، وله محطات تلفزيونية أخرى. ويمكن القول أيضاً إن المجموعة الإعلامية للجماعة كانت أكثر من وزرارة إعلام، ولكن القضاء التركي، وبعد تصنيف الجماعة منظمة إرهابية، فرض مشرفين قضائيين على زمان وهي الجريدة الأهم.

الشركات والمصارف:
على الرغم من تحريم رجال الدين الإسلامي عموماً العمل المصرفي الربوي، فإن جماعة الداعية فتح الله غولن أسست مصرفاً “ربوياً” في تركيا هو “بنك آسيا”، وكان هذا المصرف من مصادر التمويل المهمة للجماعة، ولكنه أيضاً بات اليوم يخضع للإشراف القضائي.
هناك ادعاءات كثيرة حول أموال هذا “الزاهد”، ولكن وثائق ويكيليكس تشير إلى أن ثروته تصل إلى خمسين مليار دولار. في الحقيقة أن هذه الشركات ليست باسمه، بل مسجلة كلها بأسماء أتباعه ومريديه، ولكن الأدلة تشير إلى أنها تساهم بالدعم المالي لهذه الجماعة.

السياسة:
يُروِّج أنصاره أنه زاهد بالسياسة أيضاً، ولكنه كان مؤسساً لـ “جمعية محاربة الشيوعية” في أرظروم [أرض روم] المحافظة الواقعة شرق تركيا، وولد في إحدى قراها. وقد تأسست تلك الجمعية في عام 1963، أي عندما كان في الثانية والعشرين من عمره، وأدارها فترة قصيرة قبل أن تُنقل وظيفته إلى إزمير، ويغادر إليها، ويعمل مدرساً في مساجدها.

في تلك الفترة تكاثرت الجمعيات الدينية والقومية والتي كانت تنخرط بشكل مباشر بالقتال المسلح ضد التنظيمات الشيوعية في تركيا، وكانت توجه أصابع الاتهام إلى القوى الأمنية التركية بتشجيع هذه الجماعات لمواجهة ما أسمته الخطر الشيوعي. ولعل تأسيسه لهذه الجمعية وإدارتها، يعتبر دليلاً على علاقته بالدولة العميقة التركية.

أثناء عمله في التدريس الديني والإمامة دخل السجن مدة سبعة أشهر إثر الانقلاب العسكري الذي حدث في 12 مارس/ آذار 1971 بتهمة الدعاية لتأسيس نظام ديني، وتقويض النظام العلماني القائم في البلد، وبرأته المحكمة من هذه التهمة.

من جهة أخرى فقد أقام علاقات جيدة مع كثير من السياسيين الأتراك في التسعينيات من القرن الماضي مثل رئيس الجمهورية التركية الأسبق طورغوت أوزال، ورؤساء الحكومات التركية طانصو تشيلر ومسعود يلماظ من يمين الوسط، وبولند أجاويد من يسار الوسط، ومن الشخصيات العالمية البارزة له علاقات مع المحامي إبراهام فوكسمان رئيس رابطة التشهير التي أسسها اليهود الأمريكيين، والبابا جان بول الثاني، وحتى إن معظم كوادر حزب العدالة والتنمية كانت جزءاً من تنظيمه، وتربطه بهم علاقات قوية، ولا يستثنى منهم رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان.

كانت الأحزاب السياسية كلها تنظر إليه على أنه قوة انتخابية تعمل على كسبها، ولا يستثنى من السياسيين حتى الذين يرفعون شعار العلمانية من حزب الشعب الجمهوري، والمعروف أن قاسم غولِك أمين عام حزب الشعب الجمهوري في الخمسينيات أوصى بأن يُصلِّي عليه في جنازته “الشيخ” فتح الله غولن عند وفاته في الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت الكتلة التي تتبعه كبيرة، وملتزمة بتعليماته، لذلك عندما يؤيّد أحداً ما، فيحظى هذا الأحد بفرق في الانتخابات، ولكن نتائج الانتخابات الأخيرة بينت بأن غالبية أعضاء تنظيمه انحازوا إلى حزب العدالة والتنمية، ولم يستطع إحداث أي فرق يُذكر.
وبمناسبة الحديث عن الانتخابات، هناك ادعاءات كثيرة حول دعمه حملة هيلاري كلينتون الانتخابية عندما ترشحت لتنافس باراك أوباما في انتخابات الحزب الديمقراطي.

الكيان الموازي:
عند استعراض القوة التنظيمية، والقدرة المالية، والتغلغل في البيروقراطية المدنية والعسكرية التركية، وشبكة العلاقات العالمية نجد أن هذه الجماعة فعلاً تحظى ببنية دولة، وكان قرار مجلس الأمن القومي التركي لعام 2004 بمحاربة الجماعة مبني على هذه الرؤى التي اعتبرتها الغالبية العسكرية في ذلك المجلس خطراً على بنية الدولة.
لم يُنفذ قرار مجلس الأمن القومي التركي على الفور، ولكنه سُرب إلى الإعلام في 2013، وقد أُبرز توقيع رجب طيب أردوغان بصفته رئيساً للحكومة على هذا القرار، وهنا ظهر الخلاف إلى العلن، ومنذ ذلك التاريخ، يدور صراع حاد بين الطرفين. ويشار إلى أن هذه الشبكة تقف وراء أكثر من محاولة انقلابية في تركيا باستخدام القضاء أو الجيش.

_______________________________

*كاتب سوري متخصص في الشؤون التركية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه