من قلب الحدث في ميونيخ

صلاح سليمان*

ثمة موقفان متناقضان في أزمة تدفق اللاجئين الحالية علي ألمانيا، فموقف  مظلم يتبناه المتشددون والعنصريون يرفض فكرة استقبال اللاجئين الذين تقطعت بهم السبل وضاقت بهم الحيل من أجل التمتع بالحد الأدنى من حقوق البشر، وموقف مضئ أخلاقي يرحب بهم ويري أن هذا هو واجب ألمانيا الإنساني والأخلاقي.
لقد وصل التشدد في بعض مدن الولايات الشرقية إلى استقبال اللاجئين بالتهديد والوعيد ومهاجمة مراكز للجوء بقنابل حارقة، فيما وصفت مجلة دير شبيجل ذلك الجانب اللاأخلاقي “بألمانيا المظلمة”،  لكن ألمانيا المضيئة التي عانت ويلات الحروب عبر تاريخها الطويل وتعرف المعني الإنساني لحقوق الإنسان سرعان ما تنبهت إلى ذلك الخطر الداهم الذي يهدد هيبتها ومصداقيتها في مجال حقوق الإنسان،  فهب الألمان يتحملون مسؤولياتهم الأخلاقية أمام العالم في أزمة إنسانية طاحنة دفعت المستشارة ألألمانية ميركل إلى التأكيد علي وجه ألمانيا المضيء صراحة في مؤتمر صحفي بالعاصمة الألمانية برلين قالت فيه : ” إن السلطات الألمانية لن تتسامح مع من يشككون في كرامة الأشخاص الآخرين، وأحذر المواطنين من المشاركة في المظاهرات ذات الخلفيات العنصرية واليمينية المتطرفة”، مضيفة “لا تتبعوا من يدعون لمثل هذه المظاهرات”
وبذلك حسمت المستشارة الألمانية الأمر وحافظت علي وجه ألمانيا المعروف في مجال حقوق الإنسان وأكدت على ضرورة الإسراع في دراسة طلبات اللجوء وخاصة من دول البلقان.
وفق دوائر الحكومة الألمانية فان العدد المتوقع وصوله من اللاجئين هذا العام إلى ألمانيا قد يصل إلى 800 ألف لاجئ وهو ما جعل ميركل تطلب من دول الاتحاد الأوروبي قبول نصيب أكبر من اللاجئين .
من جهة أخرى فضحت حادثة العثور على جثث 71 لاجئ في شاحنة مغلقة متروكة على أحد الطرق السريعة بين المجر والنمسا الجانب الأخلاقي والإنساني الأوروبي في أزمة اللاجئين السورين الفارين صوب القارة الأوروبية ، وأججت الحادثة الخلافات الأوروبية وتبادل الاتهامات بشأن حصص اللجوء داخل الدول الأوروبية وسبل احتواء الظاهرة. فقد اتهم وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس دول شرق أوروبا ولا سيما المجر بتبني سياسة “مخزية” تجاه اللاجئين تتعارض مع مبادئ الاتحاد الأوروبي، وطالب بأن تبحث السلطات الأوروبية الأمر بشكل جدي و صارم مع مسؤولي حكومة بودابست. ودعا في الوقت نفسه إلى الترحيب بكل اللاجئين خاصة وبحسب تعبيره بأنهم فروا من بلدانهم لأسباب سياسية.
المفوض العام للاجئين في الأمم المتحدة، أنطونيو جوتريس يري أن الأمر ليس بمثل هذه الخطورة،  فالأمر لا يتعدى بضعة آلاف من المهاجرين وأن القارة الأوروبية لديها ما يكفي من الإمكانات لإدارة أزمة اللاجئين الذين يتدفقون يوميا على أراضيها ، وقال :نحن نتحدث عن 290 ألف لاجئ وصلوا عبر البحر إلى قارة أوربية يعيش فيها حوالي 508 ملايين شخص، أي ما يعادل لاجئ واحد لكل ألف نسمة”.
في مقارنة بين موقف المجر التي أرسلت 2000 شرطي على حدودها مع صربيا لمنع دخول اللاجئين إلى أراضيها، فضلا عن تشييد جدار عازل..ثمن المفوض العام موقف المانيا التي قررت استقبال عدد كبير من اللاجئين، لاسيما السوريين، وذلك رغم الضغوط السياسية والتظاهرات المعادية للاجئين التي نظمتها عدة جمعيات عنصرية. وطالب الدول الأوروبية بمساندة برلين التي تبذل جهودا معتبرة لحل مشكلة اللاجئين حسب تعبيره، مشيرا أن “حوالي 800 ألف لاجئ يمكنهم الدخول إلى ألمانيا هذه السنة”. كما أنه دعا الدول الأوروبية الأخرى إلى سلوك نفس المنهج والنظر إلى المعضلة التي يطرحها اللاجئون “بشجاعة” و”مسؤولية”
يثير موضوع اللاجئين جدلاً كبيراً في الدول الأوروبية، خوفا من اندساس جماعات إرهابية بينهم ورغم ذلك فإن غالبية شعوب تلك الدول ترغب في تقديم المساعدة للاجئين من الناحية الإنسانية والأخلاقية.
العديد من سكان دول جنوب شرق أوروبا يختلفون عن سكان الغرب الأوروبي وهم يتابعون الحديث عن توزيع اللاجئين على دول الاتحاد الأوروبي بعين من الشك ، فأوضاعهم الاقتصادية لا تسمح باستيعاب حصتهم من اللاجئين كما أن اللاجئين يعرفون تلك الحقيقة ويرغبون في التوجه إلى ألمانيا .
كنت شاهدا قبل أيام قليلة علي وصول قطار من بودابست إلى ميونيخ يحمل 200 لاجئ أغلبهم سوريون ، وقد حشدت الجالية العربية، والمنظمات الخيرية الألمانية، ومتطوعون جهودهم للترحيب باللاجئين ومد يد العون لهم،  في حين تتوقع السلطات وصول أكثر من 600 لاجئ خلال الساعات القليلة القادمة عبر قطارات قادمة من فيينا والمجر .
 بشكل عام يفضل المهاجرون التوجه إلى ألمانيا نظرا لمتانة وضعها الاقتصادي،  وألمانيا تعرف هذه الحقيقة، ولكن أمام الوضع الراهن لم تعد القوانين القديمة التي تحد من تامين مستقبل آمن للاجئين كافية مما جعل مجلة دير شبيجل في مقال لها تنتقد سياسة الحكومة الألمانية في ملف اللاجئين وتصفه بالفاشل  وقالت إنه رغم تعدد القوانين في هذا الملف إلا أنها غير ناجحة في حل الأزمة التي تتفاقم .
لا أحد يعرف ما هي أسباب مخاوف الألمان والأوربيين بشكل عام من ضم بضعة آلاف من اللاجئين  الهاربين من جحيم الحروب والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، فسكان القارة الأوروبية لا يتعدى عددهم النصف مليار شخص، وهي قارة كبيرة ذات أطراف مترامية،  فكيف إذن كل هذا الانزعاج الأوروبي؟! 
لقد رصدت تقارير شؤون اللاجئين الدولية عدد الفارين من جحيم الحرب في ليبيا وتونس ومصر بأكثر من 250 ألف هارب، وفي لبنان 80 ألف لاجئ من سوريا والعراق،  لم ينجح من كل هؤلاء إلا عدد قليل في الوصول إلى أوربا بعد مغامرة عبور البحر المتوسط بالطبع والتي راح ضحيتها علي الأقل وفقا لمنظمة الهجرة الدولية اكثر من 1750 لاجئ قتلوا في البحر المتوسط منذ مطلع هذا العام وهو عدد أكبر بـ 30 مرة من حصيلة الفترة نفسها من العام الماضي . 
الصحفي ميشائيل كوبيتزا المتخصص في شؤن اللاجئين كتب مقالاً قال فيه إن محنة اللجوء ليست ألمانية،  بل هي محنة عالمية،  فكل 4 ثوان هناك حالة لجوء جديدة في العالم  ليس فيها أمام اللاجئ أي خيار سوي ترك منزله ووطنه والانتقال في اسرع وقت إلى المجهول. ويقول الصحفي الألماني أن هناك 51.2 مليون شخص في عام 2013  هربوا من محل إقامتهم بسبب الحروب والاضطهاد والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان  .
تعتبر  ولاية بافاريا  الجنوبية هي المنفذ الأساسي في دخول المهاجرين القادمين عبر الجنوب إلى أراضيها ورغم أن عددهم وصل منذ مطلع هذا العام وحتي الآن إلى 17 ألف لاجئ مع توقع أن يصل عددهم حتي نهاية السنة إلى 21 ألف،  إلا أن المسؤولين في الولاية يرون أن هذا الأمر لم يحدث منذ عام 2006 عندما سجلت الولاية رقما قياسيا بوصول 3000 لاجئ فقط إلى أراضيها .ويري بعض المتخصصين في شؤون اللاجئين إن هذا الأمر مبالغ فيه في ظل هذه المحنة العالمية التي جعلت بلدا مثل لبنان يستقبل حوالي 80000 ألف لاجئ رغم أن عدد سكانه يقارب عدد سكان ولاية بافاريا.
لقد وصف قائد محطة الشرطة في محطة قطارات ميونيخ  ارتور ميترر الوضع اثناء اعدادي لريبورتاج عن وضع اللاجئين في اقليم بافاريا بأن أكبر نسبة من طالبي اللجوء تأتى بالقطارات،  وأن حوالي  20% منهم من صغار السن الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 18 سنة وهم يصلون في حالة شديدة من الإعياء نظر لمعاناة السفر وعدم حصولهم علي الطعام الكافي ويقول انه في غضون الخمسة أسابيع الماضية فقط وصل عدد اللاجئين في المحطة إلى 3000 لاجئ وهي نسبة عالية جدا
ووفق مكتب شئون اللاجئين في ميونيخ فإن أكبر نسبة لجوء من العرب في المدينة هم السوريون بعدد 5276  يليهم العراقيون بعدد 4561 عراقي .

________________________

* صحفي مصري مقيم في ميونيخ 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه