أن تكون من فلسطيني 48

أنوار سرحان*

 

أن تحارب كلّ ثانية كيلا تنسى أنك أنت، أن تتشبّث بذاكرتك دليلًا إلى هويّتك التي تُطمس كلّ لحظةٍ منذ عقود، أن تكون معركتك الحقيقية هي انتماؤك وأن تثبت لذاتك وللجميع أصالةَ الأرض والإنسان  .
هذا هو باختصار معنى أن تكون من فلسطينيي 48 الذين يحملون جنسية إسرائيلية، ويتعرّضون في كلّ مناحي الحياة إلى مشاريع ممنهجةٍ لتزوير تاريخهم وتشويه هويّتهم.
يبدو الصراع متوهّجًا في مثل هذه الأيام التي يحتفل فيها الإسرائيليون بذكرى استقلال دولتهم بينما يحيي المواطنون العرب الفلسطينيون ذكرى نكبتهم، ويعودون حاملين الأعلامَ الفلسطينية، في مسيرات ضخمة إلى القرى المهجرة عام 48 في رسالةٍ للتشبث بحقّ العودة للاجئين والمهجّرين، تحت شعار “يوم استقلالهم يوم نكبتنا”.
ولوهلة يبدو من الطبيعي انقسام المواطنين العرب الفلسطينيين هنا إلى تيارين رئيسيين، أوّلهما قد يضمّ الأغلبية التي تصرّ على الحق التاريخي وعروبة وفلسطينية الأرض والإنسان، وثانيهما الأقلية التي تمثل التيار المتأسرل المتصهين بشكل أساسيّ. 
ولكن التيار الأخطر الذي يرعب كلّ حقيقي ويهدّد الوعيَ حقًّا، هو التيار الثالث، ذاك الذي يرسخ للصهيونية فكرًا وممارسةً ويخدم مصالحَ الدولة الإسرائيلية، ولكنه يسميها تسمياتٍ مراوغة، تنجح في خداع البسطاء وتتلوّن بخطابٍ ديماغوغيّ لا تبدو مواجهته سهلة.
لوسي هريش توقد الشعلة:
وجد هواة الشتم فرصةً مدهشة لتفريغ ما احتقن في نفوسهم من ضغوطاتٍ، وإطلاق أقذع الشتائم على الإعلامية العربية في القنوات الصهيونية “لوسي هريش”، والتي تمّ الإعلان عن اسمها في قائمة موقدي شعلة استقلال إسرائيل.
“لوسي هريش” إعلامية من أصل  فلسطينيّ، ولدت لأب وأم من الناصرة، لكنها تصرّ أن تتحدث بالعبرية كما ينطقها أبناؤها الأصليون، وقد برز اسمها في تغطيتها للحرب على غزة، برواية أبسط ما يقال عنها إنها صهيونية متطرفة تبرئ جيش الاحتلال مما يرتكب من فظائع، وتلقي بالتهم على أطفال غزة!
 واليوم توقد “لوسي هريش” شعلة استقلال “بلادها” القائمة على أنقاض نكبة شعبها. يبدو الأمر بيّنًا وواضحًا ولا لبس فيه، بما اختارت من خطّ متأسرل (يخدم الفكر الاسرائيلي) واضح. ويبدو الرد عليها واضحًا أيضًا بالنبذ والشتائم والهجوم من كافة الأطراف، وأبسطه هو تهديد الحركة اليمينية المتطرفة “لهافاه” بالتظاهر ضدّها، لأنها برأيهم لم تقدّم شيئًا لدولتهم، يستحقّ “شرف” إيقاد الشعلة !
بالتأكيد لن ندافع عن أمثال “لوسي هريش”، ولن نمجّد ما تمثّله، ولكن الشيء الوحيد الذي نشكرها عليه، إضافةً لمنحنا فرصةَ الشتم وتفريغ طاقاتنا السلبية هو كونها واضحةً بالتيار الذي تمثله، والذي يكفي أن تكون إنسانًا كي ترفضه وتحاربه، فلا أحد في الكون ولا حتى المحتلّ نفسه يحترم من يدافع عن قاتل شعبه ومغتصب أرضه، واليهود أنفسهم يعبّرون عن هذا باحتقارهم أكثر بكثير مما نحتاج نحن الفلسطينيين أن نعبّر، وما تظاهر “لهافاه” إلا دليلًا بسيطًا عمّا يكنّه جميع الأطراف لأمثال لوسي.
ولكن، دعونا نذهب الآن إلى مدينة الطيبة العربية الفلسطينية داخل إسرائيل، لنتعرّف على نموذجٍ لأخطر التيارات، وهم أولئك الذين يصبغون خياناتهم بصبغةٍ تصعب محاربتها، بينما لا تخدم إلا الاحتلال.
أخرسوا أئمّة الطيبة:
ربّما لم تنجح القيادات العربية عبر العقود ببناء مشروع ممنهج طويل الأمد، للردّ على المشاريع الممنهجة التي تمارسها إسرائيل لطمس الهوية العربية وتزييف المعالم التاريخية الفلسطينية، ولكن نجح الفلسطينيون على الأقلّ بحفظ الذاكرة، وتوريث الجرح لأبنائهم، ودحض مقولة قادة إسرائيل بأنّ الكبار يموتون والصغار ينسون، وجيلًا بعد جيل، يصرّ المواطنون العرب على التشبّث بقضيتهم الوطنية، مهما تعددت التيارات واختلفت توجهات الأحزاب.
وبينما ينشغل فلسطينيو 48 بإحياء يوم الأسير الفلسطيني أواخر الأسبوع المنصرم- في  17 نيسان (أبريل) والتحضيرات لإحياء ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني في 23 نيسان والتي يتوافد فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل الى القرى المهجرة تأكيدًا على حق العودة تحت شعار التحدي “يوم استقلالهم يوم نكبتنا”. وفي الوقت الذي تعلن فيه لجنة المتابعة العربية عن إضراب شامل يوم 28 نيسان المقبل احتجاجًا على سياسة هدم البيوت العربية من قبل الحكومة الإسرائيلية. وفي خضمّ ما يواجهه الفلسطينيون في أراضي 48 من محاولات التهويد المستمرة منذ عقود متشبثين بكل ما يثبت فلسطينية الأرض والإنسان يطلّ علينا أئمة المساجد في مدينة الطيبة ببيان يثير الاستهجان يطالبون فيه بلديتهم بإلغاء اسم الشاعر الفلسطيني محمود درويش من شارع 24 وتسميته اسمًا آخر (دينيًّا) مثل شارع “الأقصى” أو “مكة” أو “المحب”!!
ومهما سعينا أن نبدو سذّجًا فليس لنا أن نرى الأمر بعين حسن النية، خاصةً في وقت يقع فيه الإسلام ضحية التشويه من متحدثين باسمه أو منتقدين له على حد سواء؛ ولا يمكننا أن نغفل ما قد يحمل هذا المطلب من إساءة للقضية الوطنية الفلسطينية وفي هذا الوقت تحديدًا.
.ما الذي يقوله هذا المطلب؟:
الإسلام والثقافة ضدّان لا يجتمعان والعلم والأدب لا يعني المسلمين؟! أليس في هذا تجنٍّ على الرسالة الأعمق للإسلام الذي بدأ بلفظة “اقرأ” وجاء خطابه حثًّا على التفكّر والعقل، موجَّهًا بشكل أساسيّ “لأولي الألباب”؟!
يظهر من البيان وكأنّ الاسلام دين قشور وسطحية،  بنقيض رسالته الحقيقية،
ويرسّخ للصراع بين الدين والوطنية ولا يتوافق مع احترام رموز القضية الوطنية الفلسطينية، يجعل من الفلسطينيين أمّةً لا تحترم مبدعيها ولا تقدّر من نطق بلسانها عقودًا، يحيل الصراع من كونه بين الفلسطينيين والاحتلال إلى صراع داخلي بين الوطنيين والمتدينين، وهذا خطير جدًّا إن لم ننتبه  له.
كل هذي المعاني قد لا تبدو بخطورة ما يحمله البيان من تهديد ووعيد بإشاعة الفوضى بما يأتي تحت بند المحافظة على الممتلكات العامة ، إذ يقولون :”إننا نقدم لحضراتكم وبشكل حضاري لحوح ومرموق هذه العريضة على ان تقوموا على طلب المواطن الطيباوي، وحتى نتمكن بمعيتكم أن نحافظ على الممتلكات والنظام العام ورفض الفوضى واحتواء الطلب”!!!!
إنه تهديد صريحٌ مهما جاء مبطَّنًا، باستغلال نفوذ رجال الدين، لتهييج الشارع وتجييش المواطنين لما يريده الأئمّة، ولن نستغرب أن يأتيَ هذا المطلب من “شيوخ” أو “أئمّة”، يتمّ تعيينهم أصلًا من قِبل وزارة الأديان الإسرائيلية، وما لنا إلا أن نذكّر أنفسنا بالمساعي الممنهجة التي تقوم بها دولة الاحتلال لتشويه الهوية الفلسطينيّة لدى شعبنا.
خلاصة القول إنّ من سمّوا أنفسهم أئمة المساجد قد أثبتوا في بيانهم أنّ ما يعنيهم لا هو الاسلام ولا هو الوطن وأنهم يخدمون أجندة لا تقود شعبهم إلا إلى تهميش الصوت الفلسطيني المناضل المثقف والواعي. ..إاذا وقف أهالي الطيبة في وجه “الأئمة” مدافعين عن اسم محمود درويش وما يعكسه من الانتماء لفلسطين وللثقافة وللنضال ضدّ الاحتلال فقد فازوا، وإلا فإنّهم يثبتون أنهم لم يكونوا أصلاً جديرين بمثل هذا الاسم !

_________________
*كاتبة فلسطينية من الجليل

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه