اضرب اضرب؟!!

أنوار سرحان*

السيدة (س)، لنفترض أنّ هذا هو اسمها- تعمل مربّيةً للأطفال، إذ تهيّئهم للمدارس وللحياة، ولأنها تؤمن بأنّ قيمة المجتمعات تبدأ من قيمة الفرد فيها، وبأنّ الإنسانَ الآمن الواثق من ذاته، المنفتح على الآخرين، هو القادر على النهوض بمجتمعه وشعبه، لذا فإنّ تنشئتها للأطفال تعتمد أساسًا على تطوير الجانب العاطفيّ والوجدانيّ لديهم، في بيئةٍ من الأمان وجوٍّ أساسُه الاحترام.
والسيدة (س) أيضًا أمّ لأطفالٍ تربّيهم وفق أفكارها الإنسانية، وتواجه معهم كلّ يومٍ مسائل اجتماعيةً كثيرةً كلما اصطدم أحدهم بسلوكٍ لا يليق بما تنشئهم عليه من القيَم. واليوم تعود السيدة (س) من عملها في احتضان أبناء بلدتها إلى احتضان أبنائها في البيت، لتكتشف أنّ ابنها ابن العاشرة عاد إليها مضروبًا بوحشيّةٍ من مدير المدرسة الذي ما زال يؤمن بأنّ الضرب هو الوسيلة للتربية، وأنّ الإهانة والإذلال يصنعان رجال المستقبل، وإن تباهى أمام مفتّشيه بشعاراتٍ نقيضة.
ولأنّ السيدة (س) قد توجّهت سابقًا لمدير المدرسة غير ذات مرة، برجاء التعامل الإنسانيّ مع التلاميذ، ولأنّ المدير بدلًا من التجاوب معها ازداد تعنّتًا وصار يتعمّد اتّباعَ الأسلوب المهين، فلم يكن بدٌّ بعد منح العلاج الطبيّ المناسب لطفلها، من التوجّه إلى الشرطة وتقديم بلاغٍ ضدّ مدير المدرسة لتعامله العنيف نفسيًّا وجسديًّا مع الطفل.
هنا تشتعل الأمور، وتكتشف السيدة (س) أنها تقف في مواجهة مجتمعٍ بأكمله، بدءًا من المسؤولين في بلدتها إلى إمام المسجد (الذي يفتي بجواز شهادة الزور لإنقاذ المدير من المساءلة القانونية)،  إلى كثيرٍ من الأهالي الذين يعتمدون الضربَ مع أبنائهم ويهينونهم ويرون في شكواها ما يهدّدهم، كما المدرّسين الذين رأوا في مساءلة المدير فضحًا خطيرًا لمنهجهم العنيف والمُذلّ في التعامل مع تلاميذهم، لتصلَ النار إلى العائلة التي لا تصمد أمام الضغط الاجتماعيّ، ويرى أفرادها أنّ (س) سبّبت لهم إحراجًا مهينًا أمام أهل البلدة جميعًا، البلدة التي يكون فيها العنف ممنوعًا قانونًا، بينما هو الوسيلة الوحيدة التي تبيحها الأعراف السائدة!  تضطرّ السيدة (س) للتنازل عن القضية القانونية، حتى لا تتسبّب بطرد المدير من عمله، وسط الضغوط الهائلة عليها .
إلى هنا تنتهي الأحداث فيما يعنينا من هذه القضية، والآن دعونا نتوقف ونحاول أن نفهم ما ينعكس من الحكاية:

أوّلًا وقبل كلّ شيء، نحن أمام مجتمعٍ ما زالت تترسّخ فيه عميقًا مبادئ السلطة الأبوية، وإن كنّا نتحدّث عن جيل الفيسبوك والميديا والتويتر، جيل ما بعد الثورات وما بعد الانكشاف المطلق على انفجار المعلومات والتكنولوجيا. هذا يعني أننا مصرّون أن ننشئ أبناءنا على ما نشأنا عليه، رغم وثوقنا بأننا نعدّهم لعصرٍ لا يشبه ما عشناه بشيء. هي ازدواجيّةٌ  تشوّه أسس التربية والتنشئة الإنسانية لدينا.

ثانيًا: نحن نتبجّح بتحرير الأوطان والتحرر من الاحتلال بينما نذوّت لدى طفلنا عبوديةً وذلًّا وقهرًا وقمعًا ومهانات. والسؤال الذي يطلّ إلينا ساخرًا من حقيقتنا، ملوّحًا لنا بلسان المستهزئ: عن أية حريةٍ نتحدّث، ما دام أحدنا ذليلًا مهانًا في عمقه؟ وكيف يمكن أن يتحرر من الاحتلال من كانت العبودية دينَه الذي يتربى عليه ويرضع أسسه؟ وكيف نحلم بأمّةٍ لا تتبوّأ مقاعد التخلّف ما دام أفرادها ينشأون على الضرب والإهانات ويفقدون احترامهم فيها؟
ثالثًا: نحن أمام مرآةٍ محرجة لحقيقة  كثيرٍ من “المربّين” والمدرّسين ورجالات التربية والتعليم، الذين يبدون منفصمين بين ما تنادي به أسس التربية التي يدرسونها كمناهج مناسبة ويطالبهم بها القانون، وبين ما يترسّخ في أعماقهم مما لم يتخلصوا منه، وعليه فمن الطبيعيّ أن نظلّ نتوارث الزيف والأقنعة، بل وفتوى الشيخ الذي أباح شهادة الزور أيضًا!!

رابعًا: تبدو الحقيقة الأفظع في تلك النسبة الهائلة من المؤمنين بحقّ الضرب كوسيلةٍ للتنشئة، علمًا أنّ الإنسان يربّي الأبناء وفق ما يؤمن به لذاته، وفي عمق لا وعيه هو يرى الأبناءَ امتدادًا لنفسه بصورة المستقبل. هذا يعني أننا أمام شريحةٍ واسعةٍ من المؤمنين بدونيّتهم، المتأصّل في أعماقهم الشعور بالنقص، فنجد أحدهم متصالحًا مع أن يضربه الأقوى منه ليضرب هو الأضعف، وأن يهينَه “كبيرُه” ليهين هو “صغيرَه” وهكذا… سلسلةٌ من المضروبين المهانين والمعنَّفين. ثمّ وبحلمٍ مستحيل ينادون بالحرية ويصدّقون حلمهم بها. والسؤال كيف؟؟ هل ينجح من ذوّت الذلّ بأن يحرّر سواه وهو معتنقٌ للعبودية؟
خامسًا: يفترض أنّ دورنا كبالغين هو تنشئة الأطفال وإعدادهم للمستقبل، وعليه فإنّ أيّ عقابٍ نستخدمه معهم من المفروض أنّه يسهم في تلك التنشئة، وليس وسيلةً للانتقام لأنفسنا من ذاك الطفل، والثأر لمشاعرنا التي أزعجها، فهل ثمة جدوى حقيقية للضرب أو لإهانة الطفل في تنشئته حقًا؟ أم أنّ معظم البالغين يلجأون للعقاب وسيلةً للتنفيس عن القهر الذي يسكنهم والذي من المنطق ألا يدفع ثمنه أبناء الجيل التالي؟ لعلّ لنا أن نراجع أنفسنا كثيرًا ونخجل أمام استخدام العقاب سبيلًا تربويًّا، ونتساءل : كم مرة استخدمنا عقابًا يسهم للمدى البعيد في تذويت قيمة إيجابية للأبناء وتشكيل شخصيّة أحدهم لا للتنفيس عن قهرٍ آنيّ فينا ؟!!

فلنلتفت ببعض الموضوعية والصدق: ينشأ الرجل العربيّ على حقّه في التسلط على أنثاه، وعلى الذكور الأصغر منه، وأولئك الذكور ينشأون أيضًا على ذات الحق، وينشأ التلميذ على حقّ مدرّسه في ضربه وذلّه، فينتظر بشعفٍ أن يصير مدرّسًا ليعوّض قوّته، ويتربى الطفل على حقّ الوالدين بقهره، فيحلم أن يكبر كي يقهرَ أبناءه، ويذوّت المواطن حقَّ المسؤولين بقمعه فيحلم أن يغدوَ مسؤولًا حتى يقمع الآخرين، وهكذا نظلّ نتوارث قمعًا وقهرًا ودونيّةً وسلبَ إرادة ، ليغدو أحدنا سيّدًا على سواه دون أن يكون سيّدًا لنفسه أصلًا.
نحن أمام منظومةٍ أثبتت على مدى قرونٍ أنها لا تقود إلى “مقدمة التخلف” وقاع القاع.
طيّب: الحرّ هو من آمن بحقه في الحرية وبحقّ سواه فيها. والسيد هو من سعى أن يكون سيّد نفسه، وأن يكون سواه أسياذًا لذواتهم.  والحرية الحقيقية لا يمكن أبدًا أن تبدأ من الخارج. فمن لم يتحرر ممّا يكبّل عمقه من الأفكار المذلّة لا يمكن أبدًا أن يحرر وطنًّا. أقصى ما سيفعله أن يسعى لسحب رأسه من تحت ذلّ سلطةٍ ما لاستبدالها بذلّ آخر يسحقه، (ولنا في ما يجري حولنا ألف دليل).
إذا كان تعريف القيادية هو القدرة على التأثير على الآخرين ودفعهم للتحرك باتجاهٍ ما، بأقلّ وسائل الضغط الممكنة، فالحقيقة الجلية من حكايتنا أيضًا، أننا لا نمتلك قياديين في مثل هذا المجتمع.. إنّما نسير قطعانًا من المنكسرين إلى انكساراتٍ  أكبر نتوارثها فينا،  فإلى أين ؟

________________

*كاتبة من الجليل

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه