السوري بين عاصفتين

على صوت فيروز ومنذ نصف قرن، اعتاد السوريون أن يشربوا قهوتهم الصباحية على صوت فيروز.لا يستطيع سوريٌ أن يبدأ يومه من دون أن ينفث في الفضاء ضوء روحه ممزوجاً بكلمات الرحابنة

ابتسام تريسي*

 

العاصفة “جنى” قادمة، فكيف سيكون حال السوريين في مخيمات عرسال؟
على صوت فيروز ومنذ نصف قرن، اعتاد السوريون أن يشربوا قهوتهم الصباحية على صوت فيروز.
لا يستطيع سوريٌ أن يبدأ يومه من دون أن ينفث في الفضاء ضوء روحه ممزوجاً بكلمات الرحابنة “سوا ربينا” تهمس بها فيروز في الحارات والأزقة والشوارع، في البيوت المشرعة الشبابيك، في الجبال والوديان، في السهول والغابات، وعلى شاطئ المتوسط.. وحتّى في غرف التحقيق!
كان النقيب “علي” يسمعها حين مَثلَتُ أمامه في الثمانينات بعد أحداث جسر الشغور. والنقيب “علي” كان “الطاسة الباردة” التي يتلقّاها المعتقل بعد طاسة المساعد “الساخنة” ليستعيد هدوءه وثقته بأنّه سيعامل بطريقة إنسانية! وأنّ هناك من يسمعه بتعاطف ويستمع معه إلى فيروز!.
عاصفة سياسة بين الشعبين، تنسف كل القيم والمشاعر التي رافقت السوريين على مدى نصف قرن. والعاصفة بسبب السوري النازح.. السوري الأسمر الذي غيّر ديموغرافية شارع الحمرا، السوري المتسول وصاحب المطعم والموظف والجرسون والمتسكع في الشارع والذي يملك سيارة بنمرة دمشقية، هذه المظاهر المؤذية لعين اللبناني صاحب البشرة البيضاء والعيون الملونة والذي لم يعد يملك السيطرة على شارعه “الشانزليزيه” اللبناني، وتأذى نفسياً من الوجود السوري الشعبي، اللبناني الذي “نقرنا” مقالاً في جريدة النهار _من تحت الدست_ ليذكّرنا كم نحن “دون، وبيئة” ولا نصلح حتّى للتواجد في شارع الحمرا!
هو نفسه اللبناني الذي خضع للسوري “الأسمر” الذي يلبس حذاء عسكرياً، ويدوس كلّ القيم الإنسانية والحضارية حين حكم حافظ الأسد لبنان بشكل فعلي ومباشر منذ الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 ، العام الذي حدث فيه ثاني تغيير ديموغرافي، قامت الحرب الأهلية بسببه، حين فقد المسيحيون أكثريتهم، فطالب المسلمون بالمشاركة الأكبر في الحكم. وانتهت الحرب باتفاقية الطائف التي قسمت الحكم مناصفة بين الطرفين!
السوري الذي عاش تلك الاضطرابات بتأثيراتها السلبية العنيفة على البلدين.. توقع انتفاض اللبنانيين ضدّ النظام السوري، ضدّ مَنْ حكمهم وسرقهم على مدى أعوام طويلة، وكان شريكاً في مجزرتي “صبرا وشاتيلا”.
لم يتوقع أبداً أن ينتقم اللبنانيون من الشعب السوري الذي احتضنهم وآواهم خلال الحرب الأهلية اللبنانية.. لم تشهد الشام متسولاً لبنانياً في السبعينات ولا في الثمانينات أثناء الاجتياح الاسرائيلي، كما لم تشهد ذلك في حرب تموز 2006
ليس لأنّ النظام السوري أمّن للاجئين اللبنانيين المأوى والاحتياجات الضرورية، بل لأنّ الشعب السوري لم يكن يرضى لشقيقه اللبناني أن ينام في العراء أو على الأرصفة أو يمدّ يده ليتسوّل لقمته، احتضنه في بيته وقدّم له من قوت أولاده. 
لا يستطيع سوريٌ أن ينسى قول جبران: “يا أخي السوري… أنت مصلوب، ولكن على صدري، والمسامير التي تثقب كفيك وقدميك، تخترق حجاب قلبي.”
التغيير الديموغرافي الأوّل حدث عندما أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير، وعاصمتها بيروت.. فأصبح المسلمون من “الأقليات” بعد أن كانوا أكثرية في ظلِّ الحكم العثماني! 
ذلك التغيير الذي رفضه اللبنانيون المسلمون لأنّهم أصبحوا “أقلية” بعد أن كانوا جزءاً من الأكثرية المسلمة الحاكمة في ظلّ العثمانيين! ولأنّهم كانوا يتمنون الانضمام إلى دولة عربية برئاسة الأمير فيصل. بالإضافة لأنّهم كانوا يرفضون حكم فرنسا لأنها دولة أجنبية! وقامت حكومة لبنانية مستقلة تحت راية علم دمج بين أرزة لبنان والعلم الفرنسي!
 الحكومة التي حاولت الحفاظ على استقلال لبنان، تبذل اليوم مجهوداً جبّاراً للمحافظة على الشكل الأصيل للبنان، ولتخلصه من الزحف السوري الذي يشوّه جماله، وذلك بفرض تأشيرة على السوريين لدخول لبنان، أصبح لبنان كدول الخليج يحتاج السوري فيه إلى فيزا، وربما قريباً يحتاج إلى كفيل، بما أنّ الحكومة حصرت تواجد السوريين “بالسياحة والتعليم والخدمات الطبية” وهي أسباب مقبولة لدخول السوري إلى لبنان، لكن عليه أن يحصل قبل ذلك على وثائق تثبت أنّه قادم للسياحة أو الطبابة أو التعليم! وعلى الخطّ نفسه سارت بعض وسائل الإعلام اللبنانية صاحبة النوايا الحسنة والشريفة، وكانت أوّل من قام بحملة “لمحاربة” الاتجار بالفتيات السوريات في مخيم الزعتري عبر برنامج قدّمه زافين “خط أحمر” استضاف فيه صحفية “متحمسة ورهيفة المشاعر وطافحة بالإنسانية” دخلت مخيم الزعتري مع مصور تنكر بزي ثري خليجي جاء ليشتري فتاة..
ليس غباء من الصحفية وشريكها، لكن استغباء للمشاهد الذي يبحث عن الاثارة في تلفزيون الواقع، والمستعد سلفاً لتصديق كلّ ما يقدّم له على أنّه حقيقية غير قابلة للنقاش. الغرفة معتمة لم نرَ منها حتى الجدار، الفتاة أخفت وجهها بحجاب، ولم نسمع سوى صوت والدها، والحجة أنّ الكاميرا كانت بموضع ثابت لم تلتقط سوى هذا المشهد!
يجب إذن إخراج السوري من لبنان، والتخفيف من الضغط العصبي والنفسي والاقتصادي الذي تسبّب به لّلبنانيين، الذين وجدوا في العنف ضدّ الأطفال متنفسهم “حادثة الطفل “خالد” الذي ضربه الطفل عباس بالعصا بتحريض من أهله والتي تحوّلت إلى قضية رأي عام.
وبالقتل “حادثة الطفل المغتصب المرمي في حاوية القمامة وعمره لم يتجاوز الخمس سنوات!.. بالإضافة إلى الاتجار بالفتيات السوريات وإجبارهن على العمل بالدعارة،
وهذه الفكرة، كرّسها النظام السوري من خلال وسائل إعلامه المرئية والمسموعة والمكتوبة، ومن خلال الدراما منذ بداية النزوح إلى لبنان، كما في مسلسل “سنعود بعد قليل” الذي عرض في رمضان قبل الماضي.
ليس المتطرفون اللبنانيون والحكومة اللبنانية وحدهم من يسعى للمحافظة على أصالة الشارع اللبناني وكنس السوريين منه، بل أيضاً العواصف الثلجية “النسائية” التي هبّت في بداية كانون الثاني على المنطقة، ساعدت في موت الأبرياء في مخيم عرسال من البرد.. فقتلت العاصفة “هدى” الطفلة الحمصية النازحة ابنة العشر سنوات “هبة”..
الشعب السوري اقترف جريمة لا تغتفر استحق عليها القتل بكلّ الوسائل التي توصلت إليها أدمغة عباقرة القرن.. جريمته تكمن في عظمته.
لكنّ الشعب السوري العظيم، لن يتخلّى عن عظمته بعد أن يستتب الأمان في أرضه، سيكون مستعداً لاحتواء لاجئي الجوار في أيّ أزمة قادمة، فالحرب الأهلية المستعرة في لبنان، منذ أصبحت بيروت “باريس الثانية” لم تنتهِ، وإن مرّت في فترات هدنة متكررة. وبذور الخلاف والاختلاف مازالت تُستنبت في أكثر من مزرعة إقليمية أو دولية.. وسيبقى الشعب السوري يغني ” سوا ربينا ” ليس حباً في لبنان وإنما حفاظاً على أصالته وسمو أخلاقه.. وسيصمد في وجه العاصفة القادمة

______________

*روائية سورية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه