الأنظمة المعلقة

أما في النظم التي جاءت بالقوة عبر انقلابات عسكرية فهي لا تعترف إلا القوة , وتذهب مباشرة إلي سحق الجماهير , والتحايل علي رغباتها بالتزوير

محمد جعفر*

تمثل الشعبية السياسية والرضاء الاجتماعي حجر الزاوية في شرعية ومشروعية أي نظام , ومن ثم قدرته علي البقاء والتمكن .  فالشعبية السياسية واتساع وعمق القواعد الجماهيرية تكون في النهاية انعكاسا صادقا لنجاح النظام في تطبيق برامجه المعلنة وفق رؤية واضحة تتضمن محددات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية تسعي إلي كسب التأييد الشعبي عبر بلورة هذه المحددات إلي انجازات ملموسة تجعل رفاهية الفرد والجماعة محورا لها فتسهل حياة المواطنين وتسعي إلي النهوض الشاملة بالمعيشة . وهي بالطبع ميكانزمات معروفة  في النظم القائمة علي آليات ديمقراطية شورية حقيقية تعطي الشعب حقه في تقرير مصيره لصنع مستقبله , واختيار حكامه , ومحاسبتهم وفق النظام الأساسي الذي يرتضيه ويتوافق عليه .
أما في النظم التي جاءت بالقوة عبر انقلابات عسكرية فهي لا تعترف إلا بالقوة , وتذهب مباشرة إلي سحق الجماهير , والتحايل علي رغباتها بالتزوير, بل تقطع كل العلائق بينها وبين القوي الشعبية , وتحاول تفتيتها  , وإثارة الخلافات بينها وفيها ومن حولها حتى تنشغل بنفسها عن واجب المعارضة ودفع الاستبداد .
وفي الغالب ما تتجه أنظمة كهذه إلي الحكم الفردي ( المونوقراطي ) , الذي يقوم على قاعدة أساسية هي : انفراد شخص واحد بممارسة السلطة بوصفها حقا شخصيا له  , فيعمد إلى حصر جميع السلطات بين يديه  , ويباشر الحكم بنفسه حتى وان كان محاطا بالمساعدين أو المستشارين ,ويحرص علي تشكيل مؤسسات وظيفية تُخَدِّم علي رغباته وطموحاته.
 فسلطة الدولة تتحدد بمميزات ذاتية يتمتع بها هذا الحاكم الفرد الذي يصبح عندئذ دكتاتور , وفي ظل هذا النوع من الحكم لا قيمة لرأى الشعب ما دام الحاكم ممسكا بالسلطة  , ومصادرا لحقوق المواطنين وحرياتهم  , وتأخذ المونوقراطيات التقليدية وفقا لعلماء السياسية صورتين يعنينا هنا ما يسمي “الدكتاتوريات التجريبية” , وهي الدكتاتوريات التي لا تستند إلى منهج علمي أو عقيدة معينة  , بل تلجا إلى التجربة والخبرة الشخصية والممارسة الآنية  , ومن ابرز أمثلتها الدكتاتوريات التي يقيمها العسكريون بعد نجاح انقلاباتهم  , وفي هذا المجال فإنه لا وجود لحزب إلا حزب الدكتاتور , و الانتماء له هو السبيل الوحيد إلى الكسب والعيش , ويمكن أن يكون سبيلا في التقرب إلى السلطة والإثراء غير المشروع , وهكذا تصادر الدكتاتورية الحقوق وتخنق الحريات , ويعيش الشعب في ظلام حالك من الاستبداد والبطش والطغيان .
“إن النظم السياسية في العالم العربي تتسم بطبيعة ذات صبغة سلطة الحكم الفردي المطلق. ويقصد بمفهوم “شخصنة الحكم” القائم على مفهوم عالم الاجتماع السياسي ماكس فيبر هو تسلل علاقات منفعة متبادلة غير رسمية وشبكات محسوبية تابعة للحكام إلى النظام السياسي الشامل على الرغم من وجود مؤسسات سياسية رسمية مثل المجالس النيابية والأحزاب السياسية والاتحادات، حيث تمثل هذه الشبكات والعلاقات مصادر نفوذ مثل المؤسسات الرسمية على الأقل، وتعد “الأفعال غير الرسمية والنفوذ والمساومات والمنافسة والتوازن وتحدي أصحاب السلطة هي الفئات الرئيسية للسلطة الفردية المطلقة الجديدة”.
وتمتاز هذه الأنظمة بشكل من التركيز المرتفع للسلطة السياسية من ناحيتين، العلاقة بين الحاكم والنخبة من جانب، وعلى الجانب الآخر علاقة النظام بالمجتمع. ويمتاز مذهب “شخصنة السلطة” الجديد بشخصية قيادية فردية على قمة النظام السياسي وتتنافس قطاعات النخبة على الموارد والنفوذ السياسي تحت هذه الشخصية، فضلا عن التنافس على رضاء الحاكم حيث يقدمون له فروض الولاء، وفي المقابل يعمل الحاكم على إعطائهم امتيازات من خلال المخصصات المباشرة والعطايا وتخصيص المناصب الإدارية وإمكانات الثراء وتخصيص القروض أو من خلال التأمين السياسي لأوضاعهم الاحتكارية في مجال الاقتصاد الخاص.
كما يتم تخصيص بعض الامتيازات للفئات المهمة استراتيجيًا للحفاظ على السلطة ومن ثم ضمان ولائها التام للنظام ( وهي الجيش، أجهزة المخابرات، المستويات العليا من البيروقراطية الحكومية والشركات القريبة من النظام …إلخ) علي حساب باقي الشعب .
 وفي المقابل تتم مراقبة بعض المجالات الاجتماعية بشكل صارم، فضلا عن تنظيم الاتصالات بين المواطنين والنخبة بطرق بيروقراطية معقدة، والهدف من ذلك الحيلولة دون قيام منظمات اجتماعية مستقلة، لكن تعد العلاقة الشخصية بأعضاء من النخبة أمرًا جذابًا للمواطن لأن مثل هذه العلاقات من الممكن أن تساعد بشكل شرعي ( أو حتى غير شرعي) تحقيق المطالب بشكل غير رسمي وبدون تعقيدات البيروقراطية. ويتضح هنا أن النظام القائم على شخصنة الحكم تحتاج إلى تمويل مستمر، ويوجد مثل هذا التمويل في شكل مكاسب ريعية اقتصادية وسياسية، ولا توجد فرص لتغير النظام من تلقاء ذاته في نظم الحكم القائمة على السلطة الفردية المطلقة، ويوضح مايكل براتون أستاذ العلوم السياسية ونيكولاس فان دى فاليه الأستاذ بجامعة كورنيل على نماذج في أفريقيا أن انهيار مثل هذه الأنظمة يحدث بسبب الانهيار المالي في المقام الأول، وتبدو مثل هذه  الانهيارات في دول العالم العربي الغنية بالبترول غير محتملة الحدوث بسبب الواردات الخارجية المرتفعة حتى الآن.
يبقي أن نقول إن التترس بالشعوب هو الطريقة المثلي لبقاء الحاكم أطول فتره ممكنه علي كرسيه وإن معظم الأنظمة التي تعتمد البطش والقمع سبيلا لبقائها أنظمه معلقة في الفراغ لأنها منبتة الصلة عن القواعد الشعبية أساس الشرعية والمشروعية وهي أنظمه لن تستمر طويلا وسقوطها قد يكون مفاجئا ومدويا لأن الشعوب أدركت سر قوتها بعد ثورات الربيع العربي وانهيار حاجز الخوف.

_______________

*كاتب وباحث مصري 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه