لنسخرْ من فرنسا!

وقف الرئيس هولاند على عتبات قصر الإليزيه ليستقبل الزعماء الذين جاؤوا للعزاء.. وفجأة، ظهر نيكولا ساركوزي
الذي دُعي في إطار الوحدة الوطنيّة بين جميع الفرنسيين لمواجهة الإرهاب

عبد الرزاق قيراط *

تعتبر فرنسا بلد “الأمور الغريبة” منذ قديم الزمان، كما زعم رفاعة رافع الطهطاوي المصلح المصريّ الذي عاش في القرن 19 ولعلّه أوّل الساخرين منها، بعد زيارته لها في إطار بعثة تعليميّة عُيّن إماما واعظا لطلبتها… ففي “كتابه تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، وصف تلك الأمور التي أدهشته فقال:” ولم نشعر في أوّل يوم إلّا وقد حضر لنا أمور غريبة وذلك أنّهم أحضروا لنا عدّة خدم فرنساويّة لا نعرف لغاتهم ونحو مائة كرسي للجلوس عليها لأنّ هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجّادة مفروشة على الأرض فضلا عن الجلوس بالأرض… ثم جاءوا بالطبيخ فوضعوا في كل طبلية صحنا كبيرا ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئا يقطعه بالسكين التي قدّامه ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده فلا يأكل الإنسان بيده أصلا ولا بشوكة غيره أو سكينه أو يشرب من قدحه أبدا”..
كان الطهطاوي دقيقا في وصف الرحلة التي تقطعها اللقمة من الصحون إلى أفواه الآكلين بالشوكة لا باليد، فبدا وكأنّه قادم من كوكب آخر. وقدّم لقرّائه على مرّ العصور مشهدا طريفا مثيرا للسخرية في جميع الاتجاهات..
فرنسا بلد يعطي للقواعد السلوكيّة أو الإتيكيت قدرا كبيرا من الأهميّة، كما لاحظ الطهطاوي في عصره، وكما يلاحظ الصحفيّون النبهاء في عصرنا فلا يغادرون صغيرة أو كبيرة إلاّ أحصوها..
وفي باب الصغائر، لاحق أولئك الصحفيّون الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، وانتقدوا رعونته خلال مراسم العزاء التي أقيمت  في باريس إثر الجريمة (النكراء) التي ذهب ضحيتها طاقم التحرير والتنوير والتصوير في جريدة شارلي إيبدو:
وقف الرئيس هولاند على عتبات قصر الإليزيه ليستقبل الزعماء الذين جاؤوا للعزاء.. وفجأة، ظهر نيكولا ساركوزي
الذي دُعي في إطار الوحدة الوطنيّة بين جميع الفرنسيين لمواجهة الإرهاب … وبعد المصافحة استأذن ساركوزي هولاند ليشاركه في استقبال فرانسوا فيون وألان جوبي لأنّهما من أتباعه ومن قيادات حزبه… ولكنّ المشهد جلب له انتقادا حادّا من الصحافة الساخرة التي رأت في سلوكه تجاوزا فجّا لقواعد البروتوكول، واعتبرت وقوفه مع هولاند أمام سقيفة الإليزيه أمرا غريبا ونوعا من المنازعة على الحكم، ودليلا على “نرجسيّة الرجل” الذي لم يتقبّل فشله في الانتخابات الرئاسيّة السابقة فخرج دون أن يمرّ إلى ولاية ثانية الأمر الذي يحزّ في النفس والنفس أمّارة!
الصحفيّون الساخرون في فرنسا لا يفوّتون الفرص، وهم يعرفون كلّ ما يتعلّق بعيوب ساركوزي خَلْقاً وخُلُقاً فيمنحهم ذلك متسعا للتفكّه والتندّر.. ويفضّلون في هذا الباب غرضا قائم الذات يتّصل بقامة ذاته القصيرة، وقد التقطوا له صورا نادرة وهو يقف على مصطبة صغيرة بجوار صحفيّ أعطاه الله بسطة في الطول . والغاية من المصطبة التي تضيف للواقف عليها بعض السنتمترات سدّ الخلل (عموديّا) لصالح رئيس محبّ للتطاول عموما، وفي مشيته يتمدّد نحو العلا..! وقد لوحظ ذلك التمدّد، واشرأبّ عنقه (في المظاهرة المليونيّة ببارس الجريحة)، باحثا عن منفذ يتسلّل منه إلى الصفّ الأماميّ… وكان محظوظا، فنجح في ذلك بعد تدافُع واحتيال يتنافى مع قواعد اللياقة الدبلوماسيّة، ثمّ ساء حظّه لأنّ كاميرات المصوّرين رصدته في ذلك الموقف المستهجن المثير للضحك، وأضافت إلى سجلّ تصرّفاته الصبيانيّة تقريرا جديدا يسرّ المشاهدين.
وتشتغل المنابر التلفزيونيّة في فرنسا منذ فترة على موضوع عودة ساركوزي إلى معترك السياسة، في سابقة لا مثيل لها في التجارب السياسيّة الغربيّة حيث دأب الفاشلون على الانسحاب نهائيّا من المنافسات الانتخابيّة. ولنا في التجربة الفرنسيّة نفسها قدوتان من الماضي القريب هما إدوارد بالادير من حزب ساركوزي ولايونال جوسبان من الحزب الاشتراكيّ… وقد تصرّفا بحسب ما تمليه الأعراف في الديمقراطيات العريقة.. ففي بلاد الفرنجة، يخرج الرؤساء من عالم السياسة طوعا بعد التمتّع بولايتين متتاليتين، ويخرجون كرها، إذا انهزموا في الانتخابات، بعد ولاية واحدة، كما حدث مع صاحبنا ساركوزي سنة 2012… لكنّ ذلك الخروج لم يعجبه فقرّر العودة في سبيل الترشّح للانتخابات القادمة. ولعلّه  بهذه النزوة يشبه الزعماء الذين يخطرون الآن على بالي، فهم لا يتخلّون أبدا عن واجب الحكم لمصلحة شعوبهم طبعا، فييقون في مناصبهم طوعا وكرها عقودا طويلة وتتحمّلهم شعوبهم وهنا على وهن، وفشلا على فشل. وفي هذا الباب يطول الحديث وتكثر الأمثلة والأمثال، والشاذّ يحفظ ولا يقاس عليه.. فما وقع في تونس مؤخّرا (حيث سلّم المرزوقي صولجان المُلك لقايد السبسي سلميّا دون قتال) حدثٌ دخيل على تقاليدنا العريقة وخطيئة تسبّبت فيها بدعة الديمقراطيّة التي جاءت بكلّ أنواع الضلالات في وطننا الكبير بعد أن فتنته محاسن الربيع  العربيّ، أو ما يسمّى ثورات عافانا وعافاكم الله!
 وعلى العموم، يمكن لساركوزي أن يحلم  بالعودة إلى قصر الاليزيه طمعا في المنصب الذي فقده قبل أن يشفي منه الغليل. وعندها سيفهم متأخّرا أنّ الشعب الفرنسيّ ليس بالغباء الذي سيدفعه إلى انتخاب الخلف عقابا للسلف وتكرار التجربة مع شخصين مصيرهما السياسيّ إلى تلف. ولأنّ رجوع ساركوزي بخفيّ هولاند يرادف تعويض الفاشل بأفشل منه. لا نستبعد أن يُقدِم الفرنسيّون في الموعد الانتخابيّ المقبل على معاقبة السياسيّين (المعتدلين) بانتخاب المتطرّفين الذين يتقدّمون بخطى حثيثة في استطلاعات سبر الآراء…
وفي الختام، يطرح رجوع ساركوزي بخفّي هولاند السؤال عن نعال حُنين العربيّ وسرّ اختفائه واختفائها منذ أن قذفت واحدة في وجه الرئيس بوش. فمنذ ذلك الوقت زالت النعال وظلّ الفاشلون في هذا العالم  يتصرّفون كالأبطال.

______________

* كاتب تونسيّ

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه