ناشطون سوريون يسابقون برامج الحذف الذاتية على الإنترنت لإنقاذ أرشيف الثورة

تحولت الثورة السورية ضد نظام الأسد إلى نزاع مدمر أسفر عن مقتل أكثر من 387 ألف شخص وتشريد ملايين الأشخاص (غيتي)

منذ بداية الأيام الأولى للثورة السورية، وثق الشاب المعتز بالله مقاطع فيديو تروي يوميات الحرب، من غارات قوات النظام الجوية حتى صعود المعارضة المسلحة.

لكنّ جهده ذهب سدى بعدما حذف برنامج تشغيل ذاتي عام 2017 أرشيفه الشخصي من الإنترنت، بعدما اعتبر البرنامج الإلكتروني أن محتوى مقاطع الفيديو يخرق معايير موقع يوتيوب، لما تتضمّنه من مشاهد عنف.

وبدأت احتجاجات غير مسبوقة في البلاد ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في 15 مارس/آذار 2011، الذي وصل إلى سدة الرئاسة عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد الذي حكم البلاد منذ بداية السبعينات بيد من حديد.

وخرجت مظاهرات محدودة في العاصمة دمشق سرعان ما قمعتها الأجهزة الأمنية، إلا أن مدينة درعا جنوباً شكلت فعلياً مهد حركة الاحتجاجات خصوصاً بعدما أقدمت السلطات على اعتقال وتعذيب فتية إثر اشتباهها بكتابتهم شعارات مناهضة للنظام على الجدران.

شعارات مناهضة للنظام السوري على الجدران في درعا (غيتي)

وفي العام 2011، تحولت الثورة ضد النظام في سوريا إلى نزاع مدمر تدخلت فيه أطراف إقليمية ودولية وأسفر عن مقتل أكثر من 387 ألف شخص وتشريد ملايين الأشخاص.

وبعكس فيديوهات كثيرة تمكن ناشطون من استعادتها لم يعد ممكناً إنقاذ أرشيف المعتز بالله، الناشط الذي اعتقله تنظيم الدولة عام 2014 في الرقة وأعدمه جراء نشاطه التوثيقي.

ويخشى خبراء وناشطون خسارة أبرز الأدلة التي وثقت أسوأ النزاعات في القرن الحالي مع دخول الحرب عامها العاشر، رغم الجهود الضخمة لحفظها.

وقال سرمد جيلان، صديق المعتز بالله من ألمانيا “لم تكن مجرد فيديوهات تمّ حذفها، بل هي أرشيف كامل لحياتنا”، حسبما نقلت عنه وكالة فرانس برس.

وأضاف جيلان وهو أحد مؤسسي حملة “الرقة تذبح بصمت”، المنصة الأبرز التي وثّقت انتهاكات تنظيم الدولة في مدينة الرقة، معقل المسلحين السابق في سوريا، “تشعر وكأن جزءاً من ذاكرتك المرئية مُحي” تماماً.

وعلى غرار شركات أخرى، أطلقت يوتيوب، المنصة التي استخدمها معظم الناشطين السوريين لتحميل مقاطع الفيديو، في 2017، برنامج تشغيل ذاتي لرصد وحذف أي محتوى يعارض المعايير المعتمدة من المنصة، كمشاهد العنف والدماء. فأزال مئات آلاف المقاطع المصورة في سوريا.

وكانت هذه المقاطع المصورة وثقت الضربات الجوية التي نفذتها قوات النظام على معاقل الفصائل المعارضة، وما خلّفته من قتلى وجرحى في صفوف المدنيين والأطفال ومن دمار. ونقلت للعالم مشاهد قاسية من هجمات بأسلحة كيميائية اتُهم النظام السوري بشنها، كما أظهرت وحشية المسلحين الذين استولوا على مناطق واسعة في سوريا ونفذوا إعدامات غير مسبوقة.

وأعلن ضابط منشق عن جيش النظام السوري في يوليو/ تموز 2011 من تركيا إنشاء “الجيش السوري الحر” من جنود وضباط منشقين عن قوات النظام ومدنيين حملوا السلاح.

وسيطر مقاتلو المعارضة الذين توزعوا لاحقاً بين عشرات الفصائل المعارضة، على مناطق واسعة.

وشكّلت مقاطع الفيديو التي التقط معظمها شبان سوريون على الأرض، مرجعاً لصحفيين ومحققين للاطلاع على ما يجري في بلد يشهد نزاعاً تعددت أطرافه ولم يكن دخول صحفيين مستقلين إليه متاحاً في كل المراحل.

وقال جيلان “تشكل الفيديوهات جزءاً من ذاكرة شعب كامل. كل مقطع يذكرنا بكل قذيفة استهدفتنا، بتاريخ الحدث، حتى بما شعرنا به يومها”.

إزالة التاريخ

وبعدما حذف يوتيوب قبل أربع سنوات محتوى حملة “الرقة تذبح بصمت”، تمكن القيمون عليها، وفق جيلان، من استعادته بمساعدة من مبادرة “الأرشيف السوري”.

وتهدف المبادرة، وفق موقعها الإلكتروني، إلى الحفاظ على “الوثائق المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الأخرى المُرتكبة من جميع أطراف النزاع في سوريا بهدف استخدامها في قضايا المناصرة والعدالة والمساءلة القانونية”.

وتعد المبادرة أحد مشاريع منظمة “مينوميك” الدولية لأرشفة المواد الرقميّة المُهدّدة بالاختفاء.

وتمكنت منذ عام 2017، من إنقاذ أكثر من 650 ألف مقطع مصور على يوتيوب، وهو جزء بسيط جداً مما تمّ حذفه.

وقال ضيا كيالي من المنظمة “ثمّة شعور حقيقي لدى من يعمل في مجال التحقيقات عبر المصادر المفتوحة بأنه يصار إلى إزالة التاريخ السوري”، مضيفة “إنها عملية نزف ثابتة ومستمرة لمجموعة أدلة”.

وبعد مقارنة مقاطع الفيديو المحفوظة لدى “الأرشيف السوري” بتلك المتوفرة إلكترونياً، تبين وفق كيالي، أن ربع المحتوى الموثّق لم يعد موجوداَ على يوتيوب.

ويمكن للوضع أن يتفاقم. فقد توصّل نوّاب في الاتحاد الأوربي نهاية العام الماضي إلى إتفاق أولي يفرض قواعد أكثر تشدداً على منصات التواصل الاجتماعي الكبرى بينها إزالة أي مواد تعتبر مسيئة خلال ساعة واحدة فقط من نشرها.

وفي حال تطبيق هذه القواعد ستزداد محاولات إنقاذ المحتوى السوري صعوبة مما يدفع المعنيين إلى “أرشفة أي مادة بمجرد أن نجدها”، وفق كيالي.

ويعتمد يوتيوب على برامج ذاتية التشغيل فضلاً عن مراقبين لرصد المحتوى، لكن تفشي فيروس كورونا دفع الموقع وفق آخر تقاريره، إلى الاعتماد بشكل أكبر على البرامج للتقليل من عدد الموظفين في المكاتب.

ويعني ذلك أن الموقع قد يحذف أحياناً “محتوى قد لا يشكل انتهاكاً لسياساتنا”.

ورصدت البرامج الذاتية التشغيل 8,8 مليون شريط فيديو من أصل أكثر من تسعة ملايين أزالها الموقع في الفصل الأخير من عام 2020 حُذف نحو 36 في المئة منها قبل حتى أن يشاهدها مستخدمو يوتيوب.

وأوضح متحدث باسم يوتيوب “حين نُبلغ عن أي فيديو أو حساب حذفا عن طريق الخطأ، نعمل سريعاً على إعادته”.

تدمير الأدلة

لكن رغم الحذف، يحفل الإنترنت بأرشيف كبير عن سنوات الحرب.

وقال نيك ووترز من موقع “بيلينغ كات” المختص بالتحقيقات عبر المصادر المفتوحة “لدينا كمية مشاهد من الحرب السورية أطول من الحرب نفسها”.

وساهم النزاع السوري في تحويل “بيلينغ كات” إلى أحد أبرز المراجع التي تعتمد على المصادر المفتوحة، بعدما عمد إلى تحليل صور ومشاهد من سوريا للتحقيق في مزاعم حول هجمات كيميائية.

ولجأت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومنظمات حقوقية عدة إلى المصادر المفتوحة للتحقيق في صحة هذه الهجمات.

وأضاف ووترز أن المحتوى الذي يحمّله شخص ما مهم لناحية تحديد “ما الذي حصل، متى وأين”، لكنه قد لا يكون على هذا القدر من الأهمية حين يتعلق بالإجابة عن سؤالين: لماذا ومن المسؤول؟.

ويرى خبراء أن الصور والفيديو والمعلومات التي نشرها مواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي قد تلعب دوراً في المستقبل كأدلة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

وقال ووترز “كل فيديو أو صورة.. عبارة عن حقيقة رآها شخص ما”.

وأضاف “عبر حذف مقاطع الفيديو، خصوصاً تلك العائدة لأشخاص قتلوا.. تُدمر كبرى مواقع التواصل الاجتماعي الأدلة”.

 

المصدر : الجزيرة مباشر + الفرنسية + وكالات