وثائق سرية: تعاون استخباراتي بين فرنسا ومصر أودى بحياة مئات المدنيين في الصحراء الغربية

استند التحقيق على مئات الوثائق الفرنسية السرية بشأن المهمة الاستخباراتية "سيرلي" (ديسكلوز)

كشف تحقيق استقصائي أجراه موقع (ديسكلوز) الاستقصائي الفرنسي أنّ مصر أساءت استخدام معلومات استخباراتية قدمتها لها أجهزة فرنسية في إطار مهمة سرية بين البلدين مما أسفر في النهاية عن تورط فرنسا في غارات جوية استهدفت مدنيين في منطقة الصحراء الغربية بمصر.

واستند التحقيق الذي نُشرت نتائجه، الإثنين، على مئات الوثائق الفرنسية السرية بشأن مهمة استخباراتية تدعى (سيرلي) حصل عليها الموقع من مصدر لم تكشف عن هويته.

وأطلق الموقع على تلك الوثائق اسم “أوراق مصر” وقال إن المهمة الاستخباراتية كانت تقودها فرنسا لحساب مصر منذ فبراير/شباط 2016 في إطار مكافحة الإرهاب وتم تحريفها عن مسارها من جانب الدولة المصرية.

وجاء في الوثائق أن مصر” استخدمت المعلومات التي جمعتها الاستخبارات الفرنسية من أجل شن ضربات جوية على مركبات (آليات) تشتبه بأنها لمهربين”.

وأوضحت أن سوء استخدام مصر لهذه المعلومات واستنادها عليها لاستهداف مهربين على الحدود مع ليبيا تسبب في النهاية في إحراج باريس واتهام “القوات الفرنسية بأنها ضالعة في ما لا يقل عن 19 عملية قصف ضد مدنيين بين عامي 2016 و2018”.

بداية المهمة السرية

في 25 يوليو/تموز 2015 بدأت أولى خطوات الاتفاق على مهمة (سيرلي) بتوجه جان إيف لودريان عندما كان وزيرًا للدفاع في إدارة الرئيس الفرنسي آنذالك فرانسوا هولاند وبرفقته رئيس المخابرات العسكرية الفرنسية الجنرال كريستوف جومارت إلى القاهرة من أجل لقاء وزير الدفاع المصري حينها صدقي صبحي.

وجاء اللقاء ـوفقًا لوثيقة دبلوماسية حصل عليها موقع ديسكلوزـ انطلاقًا من الظروف المواتية بين البلدين واتفاق مصر على شراء 24 مقاتلة فرنسية من طراز رافال وفرقاطتين متعددتي الأغراض بقيمة 5.6 مليارات يورو.

وارتكز الاجتماع في القاهرة على بحث تأمين الحدود المصرية التي يبلغ طولها 1200 كيلومترًا مع ليبيا التي تعيش حالة من الفوضى.

و أثار صبحي حينئذ وبشكل خاص “الحاجة الملحة” للمعلومات الواردة من الاستخبارات الجوية.

وعليه، تعهد لو دريان بإقامة “تعاون عملي وفوري” كجزء من “مناورة عالمية ضد الإرهاب” على أن يأخذ هذا التعاون شكل “مهمة سرية تقودها المخابرات العسكرية الفرنسية من قاعدة عسكرية مصرية”.

وحسب المعلومات التي حصل عليها الموقع الاستقصائي انطلقت المهمة في 2016 بإرسال فريق فرنسي سرًا إلى منطقة الصحراء الغربية لمصر في المنطقة المتاخمة للحدود مع ليبيا.

وشارك في انطلاق العملية عشرة جنود من مجال الطيران وتحليل الأنظمة بينهم 6 جنود سابقين يعملون الآن في القطاع الخاص.

واعتمدت المهمة على طائرة مستأجرة من الاستخبارات العسكرية الفرنسية من طراز (Merlin III) وهي طائرة خفيفة مجهزة للاستطلاع والمراقبة واستخدمت لتكون آذان وعينين للفريق.

وكتب الموقع في تقريره “من حيث المبدأ كانت تقوم المهمة على مراقبة الصحراء الغربية لرصد أي تهديدات إرهابية محتملة آتية من ليبيا. وفي كل رحلة  كان يرافق الفريق الفرنسي ضابط مصري تم تكليفه بالتنصت المباشر على المحادثات”.

طائرة MERLIN III في مهبط جوي بمدينة مرسى مطروح غربي مصر (موقع ديسكلوز)

وأضاف “نظريًا، كان من المقرر التحقق من المعلومات التي تم جمعها من أجل تقييم حقيقة التهديد وهوية المشتبه بهم. لكن سرعان ما أدرك أعضاء الفريق (الفرنسي) أن المعلومات الاستخبارية المقدمة للمصريين تستخدم لتسهيل قتل مدنيين يشتبه في ضلوعهم في عمليات تهريب”.

ونشأت شكوك الفريق الفرنسي بعد شهرين فقط من بدء مهمتهم كما يتضح في تقرير لمديرية الاستخبارات العسكرية (DRM) تابعة لوزارة الدفاع الفرنسية بتاريخ 20 أبريل/نيسان 2016.

وحسب ديسكلوز، أبلغ ضابط الاتصال للفريق الفرنسي رؤساءه أن المصريين يريدون “اتخاذ  إجراءات مباشرة ضد المتاجرين بالبشر وإن مكافحة الإرهاب لم تعد بالفعل أولوية.”.

وبعد أربعة أشهر أكد تقرير أخر شبهات الفريق الفرنسي عندما أعلن وكلاء في الاستخبارات الفرنسية أن عملية سيرلي “لم تكن ذات أهمية” لاقتصارها على منطقة غرب مصر حيث تكاد تكون الجماعات المسلحة معدومة.

وقالوا في تقرير صدر في سبتمبر/أيلول 2016 إنهم “مُنعوا من تغطية الأراضي في ليبيا وسيناء حيث كان التهديد الإرهابي حقيقيًا”، حسب المصدر ذاته.

تقرير سري بتاريخ سبتمبر 2016 بشأن أهداف مهمة سيرلي وعدم إعطاء مكافحة الإرهاب أولوية (موقع ديسكلوز)

وأفادت إحدى وثائق الاستخبارات الفرنسية السرية التي حصل عليها (ديسكلوز) بأن المنطقة الصحراوية الشاسعة التي تمتد من جنوب واحة سيوة إلى مدن دلتا النيل أطلق عليها ضابط مصري اسم “الموزة” وهي منطقة تمركز شاحنات الدفع الرباعي (البيك أب) التي يستخدمها المهربون الذين يسافرون إلى مصر من الحدود الليبية.

وأوضحت أن هذه المركبات عادة ما يقودها “مدنيون تتراوح أعمارهم بين 18 و 30 عامًا ويمكن أن تحمل سجائر أو مخدرات أو أسلحة ولكن أيضًا يمكنها نقل بنزين وأرز وحبوب ومستحضرات تجميل”.

ونقل (ديسكلوز) عن موظف عام سابق يعيش في قلب المنطقة الحدودية مع ليبيا قوله “عندما يرى الأطفال هنا -الذين لم يتجاوزوا الثلاثين من العمر والذين يتزوجون أحيانًا ولديهم أطفال صغار- شابًا يبني فيلا أو حديقة كبيرة  فإنهم يريدون الشيء نفسه دون التفكير في الخطر”، في إشارة إلى لجوء سكان هذه المناطق الحدودية وغالبيتهم تحت خط الفقر إلى العمل في مجال التهريب.

صورة من تقرير لمديرية الاستخبارات العسكرية الفرنسية بتاريخ يناير 2017 بشأن إنهاء مهمة سيرلي

 

ولفت مهرب سابق من المنطقة الحدودية ذاتها ويعمل الآن في السياحة إلى أن سائق شاحنة محملة بالسجائر يكسب 3800 يورو (4287 دولار أمريكي) لرحلة العودة بين ليبيا ومصر”.

ويمثل هذا المبلغ ما يقرب من 40 ضعف متوسط ​​الأجر الشهري في مصر، حسب المصدر ذاته.

وفي يوليو 2020، أعلن مكتب الرئاسة المصري أنه على مدار السنوات السبع الماضية “دمرت 10 آلاف مركبة مليئة بالإرهابيين والمهربين وقتل 40 ألف شخص”.

فشل المهمة

قال موقع (ديسكلوز) إنه بحلول نهاية عام 2016 لم يعد هناك موضع شك في

أن عملية (سيرلي) فشلت في تحقيق هدفها.

وأوضح أن الفرنسيين توصلوا إلى هذه النتيجة بعد أيام من إعلان مصر في ذلك الوقت تدمير ثماني شاحنات صغيرة مع ركابها بذريعة الاشتباه في أنهم مهربون.

وشدد (ديسكلوز) أن العملية المصرية ضد هذه الشاحنات تمت بناء على معلومات وفرها فريق مهمة (سيرلي) في 21 سبتمبر 2016 ما جعل الدولة الفرنسية في النهاية “شريكًا في عمليات الإعدام التعسفي” لمدنيين مصريين.

بيد ان الوثائق التي كشف عنها (ديسكلوز) أشارت إلى استمرار المهمة رغم هذه التجاوزات.

وأعربت مديرية الاستخبارات العسكرية والقوات الجوية عن قلقهما من التجاوزات في هذه العملية، وفق ما يتضح من مذكّرة أرسِلت إلى الرئاسة الفرنسية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أوردها موقع (ديسكلوز).

وتحدّثت مذكرة أخرى بتاريخ 22 كانون الثاني/يناير 2019 أرسلت لعناية وزيرة القوات المسلحة فلورنس بارلي قبل زيارة رسمية لمصر مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن وجود “حالات مؤكدة لتدمير أهداف اكتشفتها الطائرة الفرنسية”.

وورد في المذكرة أنه “من المهم تذكير (الطرف)الشريك بأن طائرة المراقبة والاستطلاع الخفيفة ليست أداة استهداف”.

وثيقة أرسلت لعناية وزيرة القوات المسلحة فلورنس بارلي في 22 يناير 2019 (موقع ديسكلوز)

ورغم ذلك أفاد (ديسكلوز) أنه لم يتم توقيع أي اتفاق في هذا الاتجاه كما أنه لم تتم إعادة النظر في هذه المهمة مؤكدا أن “الجيش الفرنسي ما زال منتشرًا في الصحراء المصرية”.

ومساء الأحد، قالت وزارة الجيوش الفرنسية إن “مصر شريك لفرنسا – كما هي الحال مع كثير من الدول الأخرى – نُقيم (معها) علاقات في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب من أجل خدمة الأمن الإقليمي وحماية فرنسا ولأسباب واضحة تتعلق بالسلامة والكفاءة لن نعطي مزيدًا من التفاصيل بشأن طبيعة آليت التعاون المنفذة في هذا المجال”.

وأضافت في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية أن الوزيرة فلورنس بارلي “طلبت فتح تحقيق بشأن المعلومات التي نشرها ديسكلوز”.

يشار إلى أن ماكرون استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر/كانون الأول 2020 ومنحه وسام جوقة الشرف أرفع الأوسمة الفرنسية.

المصدر : الجزيرة مباشر + ديسكلوز