شرق المتوسط.. صب الغاز على خطوط النزاع بين تركيا واليونان

سفينة التنقيب التركية عروج رئيس
سفينة التنقيب التركية عروج ريس

في ورقة “تقدير موقف” أصدرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان “تركيا واليونان: صَبُّ الغاز على خطوط النزاع بشرق المتوسط”، ناقشت جذور وأسباب ومآلات النزاع التركي اليوناني شرق المتوسط.

وقالت الورقة البحثية إن اكتشاف الغاز أوقد نزاعات بحرية خامدة بين تركيا واليونان في شرق المتوسط، فشرع البلدان يلوِّحان باستعمال القوة لحسمها.

وطوال القرن الماضي، وبعد الهزيمة الساحقة التي أوقعتها قوات حرب الاستقلال التركية بقوات الاحتلال اليونانية، لم تعرف علاقات الدولتين الجارتين بعضًا من التهدئة إلا لعقود قليلة.

وتعود جذور هذا الصدام والتوتر إلى ستة ملفات رئيسة: تخطيط الحدود البحرية في بحرَيْ إيجة والمتوسط، وتسليح الجزر الشرقية في بحر إيجة، وتداخل المجال الجوي، والأقليات وحقوقها في كل من الدولتين، ومسألة قبرص، ورفض اليونان، التي تتمتع بحق الفيتو، التحاق تركيا بالاتحاد الأوربي.

وبحسب الدراسة يعد الملف الأكثر تعقيدًا بالتأكيد هو ملف الحدود البحرية في إيجة والمتوسط.

بحر إيجة

ولَّد الموقف اليوناني سلسلة من الصدامات مع تركيا في بحر إيجة، بداية من 1974، 1976، 1987؛ وبصورة بالغة الخطر في 1996، وفي يوليو/تموز 1997، أصدرت الدولتان إعلان مدريد، الذي أكَّد على تعهدهما بالتزام الخيار التفاوضي لحل الخلافات في بينهما في بحر إيجة.

ليس ثمة حاجز جغرافي بين بحرَيْ إيجة والمتوسط (الجزيرة)
شرق المتوسط: حدود متضاربة

لم يتراجع الاهتمام ببحر إيجة ولا تراجعت الخلافات التركية-اليونانية حوله، ولكن اهتمام الدولتين أخذ بالتزايد بشرق المتوسط منذ العقد الأول لهذا القرن.

وكانت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أول من أشار إلى وجود مخزون هائل من النفط والغاز في شرق المتوسط؛ وهو ما دفع كلًّا من إسرائيل وقبرص للتنقيب في المنطقتين اللتين افترضتا أنها تمثل حدودهما الاقتصادية في البحر.

أخذت أنقرة، منذ 2007، في البحث عن شريك يشاطرها المجال البحري لترسيم حدودها الاقتصادية في المتوسط.

وظلَّت الحال كذلك إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حين توصلت أنقرة لاتفاقية ترسيم المنطقة البحرية الاقتصادية مع حكومة طرابلس الليبية، التي كانت مناسبة لرسم خارطة تحالفات جديدة في شرق المتوسط، وليس فقط الصراع على الحدود البحرية الاقتصادية.

خارطة التحالفات: تشققات في جبهة أثينا

في 2018، وُلِدت في الجانب اليوناني فكرة مشروع بالغ الطموح لمدِّ أنبوب غاز، يبدأ من الحقول الإسرائيلية البحرية، ليمر بجزيرتي قبرص وكريت، وصولًا لإيطاليا، بهدف ضخِّ الغاز لدول جنوب أوربا.

 ولأن علاقات عدائية مع تركيا تجمع الدول المشاركة في المفاوضات حول أنبوب المتوسط، فقد سارعت هذه الدول إلى تشكيل منتدى خاص بها، عُرف باسم منتدى شرق المتوسط. وضمَّ كلًّا من مصر، واليونان، وقبرص، وإسرائيل، وإيطاليا

ولم يكن خافيًا أن منتدى شرق المتوسط قُصد به تأسيس تحالف مناهض لتركيا، بغضِّ النظر عن جدوى مشروع خط أنابيب الغاز المتوسطي.

وربما كان إطلاق منتدى شرق المتوسط بصورته الإقصائية ما دفع تركيا للإسراع في التحرك نحو توقيع اتفاق ترسيم الحدود مع ليبيا في نهاية العام نفسه.

اجتماع منتدى شرق المتوسط

مهما كان الأمر، فقد نشطت سفن التنقيب التركية، التي رافقتها قطع مسلحة من القوات البحرية، خلال 2019 و2020، للبحث عن مكامن طاقة في المنطقة التي تعتبرها تركيا جزءًا من منطقتها الاقتصادية البحرية، بغضِّ النظر عن الموقف اليوناني.

ولأن حلفاء اليونان في إسرائيل ومصر لم يُظهروا استعدادًا لخوض مواجهة مسلحة مع تركيا، لجأت أثينا لواشنطن ودول الاتحاد الأوربي.

اتخذت إدارة ترمب موقفًا أقرب إلى الحياد، داعية الطرفين للتفاوض لحل المشاكل العالقة.

في أوربا، وجدت اليونان دعمًا صريحًا من فرنسا؛ أما ألمانيا، صاحبة الثقل الرئيس في الاتحاد الأوربي، فقد صبَّت جهدها في مسعى للوساطة والعمل على بدء مفاوضات مباشرة بين الدولتين.

كان المفترض أن تبدأ المفاوضات التركية-اليونانية بالفعل، عندما أعلنت أثينا عن التوصل لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الاقتصادية مع مصر؛ وهو ما أثار رد فعل تركي غاضب، وإعلان أنقرة التراجع عن تعليق التنقيب في جوار كريت.

لم تُنشر خارطة رسمية للاتفاق المصري-اليوناني بعد، ولكن يبدو أن المصريين زوَّدوا الأتراك بخارطة الاتفاق حتى قبل أن يُصدِّق البرلمان اليوناني عليه.

ويقدم الاتفاق اليوناني-المصري دعمًا مباشرًا للموقف التركي في النزاع مع اليونان حول الحدود البحرية الاقتصادية لكل منهما، في المتوسط وفي إيجة، على السواء.

ثمة مؤشرات متزايدة على تهدئة في العلاقات التركية-المصرية، لم تتضح في الاتفاق اليوناني-المصري وحسب، ولكن في ليبيا أيضًا.

وانعكست هذه التهدئة على ابتعاد مصر عن المشاركة في المناورات اليونانية في المتوسط في الأسبوع الأخير من أغسطس/آب؛ التي عكست إلى حدٍّ كبير تقلص الدول الداعمة لليونان.

ابتعدت إسرائيل، أيضًا، عن المشاركة في المناورات اليونانية، ربما لأن الإسرائيليين يدركون قوة الموقف التركي، وأنهم سيضطرون في النهاية للتفاوض مع أنقرة لتأمين ممر عبر المنطقة التركية الاقتصادية.

إضافة إلى اليونان، شارك في هذه المناورات قوات بحرية من كل من قبرص اليونانية، وإيطاليا، وفرنسا، وطائرات إماراتية.

مشاركة قبرص اليونانية في المناورات هي أمر طبيعي ومتوقع، كونها دولة تحت حماية يونانية فعلية. ولكن مشاركة فرنسا والإمارات هي التطور الأهم.

من جهة أخرى، اتخذت روسيا، التي تنظر بقلق إلى تصاعد الدور التركي في شرق المتوسط وتربطها باليونان الرابطة الأرثوذكسية، موقفًا غير منحاز لأي من الجانبين، حتى الآن على الأقل.

والواضح أن روسيا تأمل، بصبر طويل، أن تنتهي تركيا إلى الخروج من الناتو. وكذلك التزمت بريطانيا، التي ترى في تركيا شريكًا اقتصاديًّا رئيسًا بعد الخروج من الاتحاد الأوربي، موقفًا حياديًّا من الأزمة.

ردَّت تركيا على خطوة المناورات اليونانية ذاتها بالإعلان عن إجراء مناورات بحرية في شرق المتوسط لأسبوعين كاملين.

خيارات المواجهة والتفاوض

وحول خيارات المواجهة قالت الدراسة: ليس ثمة خلاف في العالم بين تصوري دولتين لحدودهما البحرية الاقتصادية مثل الخلاف التركي-اليوناني، بيد أن هذا الخلاف في النهاية لن يُحَلَّ، على الأرجح، بقوة القانون والمنطق، بل بثقل اعتبارات ميزان القوى.

تركيا اليوم تتفوق على اليونان بكل المقاييس، اقتصاديًّا، وبشريًّا، وجيشًا وبحرية، وتسلحًا.

وبعد أن اكتشفت تركيا حقلًا متوسط الحجم للغاز في منطقتها الاقتصادية في البحر الأسود، يقدر احتياطيُّه على سدِّ حاجة تركيا من الغاز لأكثر من ست سنوات، يمكن لأنقرة أن تستمر في فرض أمر واقع يستند إلى تصورها لحدودها البحري، واتباع سياسة النَّفَس الطويل، إلى أن تقتنع أثينا بالذهاب إلى قاعة التفاوض بدون شروط مسبقة.

الرئيس التركي أثناء مشاركته في توديع سفينة التنقيب "الفاتح" أثناء توجهها للبحر الأسود

 

اليونان، التي تدرك حقيقة ميزان القوى، تسعى إلى تحالفات أوسع لمواجهة الأمر الواقع التركي. ولكن الواضح أن عدد حلفاء اليونان في تناقص وليس في ازدياد. لا مصر ولا إسرائيل ترغبان في مواجهة تركيا أو في تصعيد مستوى التوتر معها، ليس لأن نظرة أيهما لأنقرة تغيرت، بل لحسابات براغماتية بحتة. كما يوجد شك كبير، بالرغم من اللغة بالغة الاستفزاز التي تستخدمها باريس، في أن فرنسا يمكن أن تخوض مواجهة مباشرة مع تركيا، سيما أن مؤسسة دولية واحدة لا يمكن أن تجد مسوغًا واحدًا لمحاولة فرنسا صناعة دور وموقع لها في شرق المتوسط.

ما يتبقى في جعبة أثينا، إن استمرَّ مستوى الاهتمام الأمريكي المنخفض بأزمة العلاقات التركية-اليونانية، هو استدعاء الاتحاد الأوربي ومحاولة إقناع الشركاء الأوربيين بفرض عقوبات على تركيا.

بيد أن من الصعب إيجاد إجماع أوربي على قرار بفرض عقوباتٍ ما على تركيا، أولًا: لأن لتركيا أصدقاء بين دول الاتحاد لا يرون مسوغًا عادلًا للمطلب اليوناني، وثانيًا: لأن لدى تركيا أوراقًا يمكن استخدامها في الرد على أية خطوة أوربية عدائية.

وحتى إن نجحت أثينا في حشد التأييد الأوربي لعقوبات على تركيا، فليس ثمة ما يشير إلى أن هذه العقوبات يمكن أن تُحدث تغييرًا في الموقف التركي.

الخلاصة

وخلصت الدراسة إلى أن المخرج الأمثل، والأسلم للطرفين، من الأزمة المركبة في شرق المتوسط وإيجة هو بالتأكيد التفاوض.

ولكن، وحتى تصل الدولتان إلى قاعة التفاوض، لابد من ملاحظة أن مستوى المواجهة بينهما وصل حدًّا غير مسبوق، وأنه حتى إن لم يكن لدى أنقرة أو أثينا نوايا لإشعال حرب، فإن مجرد وقوع خطأ غير مقصود يمكن أن يؤدي فعلًا لمواجهة مسلحة، قد تصبح باهظة التكاليف للدولتين ولأمن المتوسط ككل. مثل هذه المواجهة، على أية حال، يمكن أن ينجم عنها خارطة قوة جديدة في شرق المتوسط.   

لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع للرابط التالي:
تركيا واليونان: صَبُّ الغاز على خطوط النزاع بشرق المتوسط
المصدر : الجزيرة مباشر