أزمة لبنان المالية.. ما مدى سوء الأزمة الاقتصادية وكيف آلت الأمور إلى ما وصلت إليه؟

تفجرت مظاهرات شعبية في لبنان كان وقودها الشباب المطالب بتغيير كلي احتجاجًا على النخبة السياسية (غيتي - أرشيفية)

يعيش لبنان أزمة اقتصادية طاحنة بعد أن تراكمت الديون على الحكومات المتعاقبة في أعقاب الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين 1975 و1990 دون أن تحقق إنجازات بهذا الإسراف في الإنفاق.

وأصاب الشلل البنوك التي تعد محورية للاقتصاد القائم على الخدمات.

وعجز أصحاب المدخرات عن سحب أموالهم بعد أن حالت الأزمة بينهم وبين حساباتهم الدولارية أو قيل لهم إن الأموال التي يمكنهم السحب منها الآن لم تعد تساوي سوى جزء صغير من قيمتها الأصلية.

وانهارت العملة اللبنانية مما دفع قطاعا كبيرا من السكان إلى صفوف الفقراء.

ويعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة بدأت في عام 2019 عندما انهار النظام المالي تحت وطأة الديون السيادية والطرق غير المستدامة التي كانت تمول بها بينما لم يخرج السياسيون بعد بخطة إنقاذ.

ما الخطأ الذي حدث؟

شهد لبنان منذ 2019 قصة انهيار مالي تعد قصة انحراف رؤية لإعادة بناء دولة اشتهرت فيما مضى بأنها سويسرا الشرق، وهذا الانحراف مرده إلى سوء الإدارة عندما عمدت النخبة الطائفية للاقتراض دون ضوابط تذكر.

في وسط بيروت الذي سوّته الحرب الأهلية بالأرض، ارتفعت من جديد البنايات العالية التي شيدها مهندسون معماريون عالميون، ومراكز التسوق الفاخرة التي امتلأت بمنتجات أسماء تجارية كبرى وكانت تقبل الدفع بالدولار أو بالعملة اللبنانية.

لكن لبنان لم ينجز شيئًا آخر بجبل الديون الذي تنامى حتى بات في ذلك الوقت يعادل 150% من الناتج المحلي ليكون واحدًا من أكبر أعباء الديون في العالم.

ولم يعد بإمكان محطات الكهرباء أن تلبى الاحتياجات على مدار الساعة، وصارت الثروة البشرية هي الصادرات الوحيدة التي يمكن التعويل عليها.

ووصف بعض الاقتصاديين النظام المالي في لبنان بأنه احتيال منظّم على المستوى الوطني على غرار “خطة بونزي الهرمية” والتي يتم فيها اقتراض أموال جديدة لسداد مستحقات الدائنين الحاليين، وتفلح هذه الخطة في تحقيق مآربها إلى أن تنفد الأموال الجديدة.

وبعد الحرب الأهلية، عمد لبنان إلى موازنة دفاتره بإيرادات السياحة والمساعدات الخارجية وحصيلة إيرادات القطاع المالي وسخاء دول الخليج العربية التي مولت الدولة بدعم احتياطيات البنك المركزي.

كان أحد المصادر الرئيسة للدولار هو تحويلات ملايين اللبنانيين الذي سافروا للعمل في الخارج، وحتى في الأزمة المالية العالمية عام 2008 واصل المغتربون اللبنانيون تحويل الأموال إلى البلاد.

التحويلات الخارجية وواتساب

ومنذ 2011، بدأت وتيرة التحويلات تتباطأ عندما أدت الخلافات الطائفية في لبنان إلى مزيد من التصلب السياسي وانزلق جانب كبير من الشرق الأوسط وخاصة سوريا المجاورة إلى حالة من الفوضى.

وبدأت دول الخليج “السنية” التي كانت في وقت من الأوقات مصدرًا يُعوّل عليه للدعم تدير ظهرها بسبب تنامي نفوذ إيران في لبنان من خلال جماعة حزب الله.

وقفز العجز في الميزانية إلى مستويات كبيرة وازداد العجز في ميزان المدفوعات عندما عجزت التحويلات عن مجاراة الواردات التي تشمل كل شيء من الأغذية الأساسية إلى السيارات الفارهة.

كان هذا هو الوضع حتى 2016 عندما بدأت البنوك تعرض أسعار فائدة مرتفعة على الودائع الجديدة بالدولار الذي كان عملة مقبولة رسميًا بفعل “دولرة” الاقتصاد وتعرض كذلك أسعار فائدة أعلى كثيرًا على الودائع بالليرة اللبنانية.

وفي أماكن أخرى من العالم كان أصحاب المدخرات يحصلون على عوائد زهيدة.

وكانت العملة اللبنانية مربوطة مقابل العملة الأمريكية بسعر 1500 ليرة للدولار منذ أكثر من 20 عامًا ويمكن تغييرها بكل حرية من أي بنك أو حتى من صراف السوبر ماركت، وتدفقت الدولارات من جديد واستطاعت البنوك أن تواصل تمويل الإنفاق العام.

كيف أمكن للبنوك أن تعرض عوائد عالية هكذا؟

خلال معظم عام 2016، كانت حالة الشلل السياسي قائمة في لبنان وأدت الخلافات إلى بقاء البلاد بلا رئيس، غير أن مصرف لبنان المركزي بقيادة حاكمه رياض سلامة -المصرفي السابق في ميريل لينش منذ 1993- استحدث “هندسة مالية” بسلسلة من الآليات أدت إلى تقديم البنوك عوائد سخية على الودائع الدولارية الجديدة.

وقال مصرفيون إن هذا الأسلوب كان من الممكن أن يكون ملائمًا إذا ما تبعته إصلاحات سريعة، لكنه ليس كافيًا دون هذه الإصلاحات وهو ما آلت إليه الأمور، وظهر تحسن التدفقات الدولارية في زيادة الاحتياطيات الخارجية، وما كان أقل وضوحًا صار الآن موضع خلاف وهو زيادة الالتزامات.

ووفق بعض الحسابات انمحى من أصول البنك المركزي ما يفوق ديونه، ولذا فربما تكون خسائره هائلة، وفي الوقت نفسه صعدت كلفة خدمة الدين اللبناني إلى حوالي ثلث الإنفاق في الميزانية أو أكثر.

متظاهرة لبنانية تحتج على سياسات المصارف (غيتي – أرشيفية)

ما الشرارة التي أدت للانهيار؟

عندما احتاجت البلاد إلى لجم الإنفاق، أسرف الساسة في زيادة أجور العاملين في الدولة قبل انتخابات عام 2018، وأدى فشل الحكومة في تنفيذ الإصلاحات إلى حجب المانحين الأجانب مساعدات بمليارات الدولارات كانوا قد تعهدوا بتقديمها وهي الخطوة التي كانت بمثابة شرارة أدت إلى الانهيار.

وكانت الشرارة الأخيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وتمثلت في خطة لتطبيق ضريبة على مكالمات تطبيق واتساب، وفي ضوء ضخامة عدد المغتربين وانخفاض النظام الضريبي في لبنان الذي يميل لصالح الأثرياء كان لفرض رسم على الطريقة التي يتواصل بها عدد كبير من اللبنانيين أثر كارثي.

وتفجرت مظاهرات شعبية كان وقودها الشباب المطالب بتغيير كلي احتجاجًا على النخبة السياسية بقياداتها الطاعنة في السن التي صارت أكثر ثراء في الوقت الذي استمرت فيه معاناة الآخرين.

ونضبت تدفقات النقد الأجنبي من الخارج وخرجت الدولارات من لبنان، ولم يعد لدى البنوك دولارات كافية لسداد أموال المودعين الذي اصطفوا في طوابير في الخارج مما دفع البنوك لإغلاق أبوابها، كما عجزت الحكومة عن سداد التزاماتها على الدين الخارجي.

وانهارت العملة من 1500 ليرة للدولار قبل الأزمة حتى بلغت مؤخرًا حوالي 23 ألف ليرة للدولار بعد أن هبطت -في وقت سابق من الشهر الجاري- إلى 34 ألفًا.

وتفاقمت المشاكل بانفجار مرفأ بيروت، في أغسطس/آب 2020، أسفر عن سقوط 215 قتيلًا وتسبب في أضرار بمليارات الدولارات.

وبعد انكماش اقتصادي سريع بلغ الدين الحكومي ما يعادل 495% من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 وفق بعض التقديرات، وهو ما يفوق بكثير المستويات التي عرقلت بعض الدول الأوربية قبل نحو عشر سنوات.

ومنذ ذلك الحين، تقود فرنسا مساعي دولية لدفع لبنان لمعالجة الفساد وتطبيق الإصلاحات التي يطالب بها المانحون، كما تشكلت حكومة جديدة في أواخر العام الماضي ووعدت بإحياء المحادثات مع صندوق النقد الدولي، لكنها لم تنفذ حتى الآن أي سياسات إصلاحية مهمة.

ومن الأمور البالغة الأهمية ضرورة اتفاق الساسة والمصرفيين على حجم الخسائر الهائلة، وعلى ما وقع من أخطاء حتى يمكن أن يغير لبنان مساره ويتوقف عن العيش بما يتجاوز إمكانياته.

ما مدى سوء الوضع الاقتصادي؟

تراجع الناتج الإجمالي المحلي إلى ما يقدر بنحو 20.5 مليار دولار في 2021 من نحو 55 مليار دولار في 2018، وهو نوع من الانكماش الذي عادة ما يصاحب الحروب على حد وصف البنك الدولي الذي صنف هذا الانهيار المالي بأنه من الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

  • فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، مما رفع تكلفة كل شيء في الدولة المعتمدة اعتمادًا قويًا على الواردات وقوض القوة الشرائية للعملة، وراتب الجندي الشهري الذي كان يعادل في يوم من الأيام 900 دولار يساوي الآن 50 دولارًا.
  • تقول لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) إن معدلات الفقر تزايدت بشكل كبير بين السكان البالغ عددهم 6.5 مليون نسمة إذ يصنف 80% منهم فقراء.
  • ويتفاقم الموقف إذ قالت اليونيسف إن أكثر من نصف الأسر لديها على الأقل طفل واحد لا يحصل على إحدى وجبات اليوم، في سبتمبر/أيلول الماضي، مقارنة مع ما يزيد عن الثلث فحسب في أبريل/نيسان الفائت.
  • تكبد النظام المالي اللبناني خسائر فادحة، بما يشمل نحو 44 مليار دولار في المصرف المركزي تتعلق بإخفاق الجهود الرامية لدعم العملة وذلك وفقًا لبيانات حكومية في 2020، وهذا المعدل هو بالتقريب مثلي حجم الناتج الاقتصادي، والخسائر الإجمالية التي تشمل تقليص القيمة الاسمية المتوقع للدين السيادي تفوق ذلك أيضًا.
  • هناك شلل في البنوك اللبنانية إذ مُنع المودعون من حساباتهم الدولارية، كما تطبّق عمليات السحب بالعملة المحلية أسعار صرف تمحو 80% من قيمتها.
  • وخلال زيارة في أكتوبر/تشرين الأول إلى بيروت، قالت المسؤولة الأمريكية فيكتوريا نولاند إن الشعب اللبناني يستحق أن يعرف أين ذهبت أمواله؟
  • يواجه لبنان المعتمد على استيراد الوقود أزمة أيضًا في الطاقة، وحتى قبل الأزمة كانت إمدادات الوقود التي تستخدم في محطات الكهرباء تشهد نقصًا حتى في العاصمة.
  • وحاليًا تعد الأسر نفسها محظوظة إن حظيت بأكثر من ساعة أو نحو ذلك من التيار الكهربائي يوميًا، كما ارتفعت أسعار الوقود ارتفاعًا حادًا، وركوب سيارة أجرة مشتركة -وهي وسيلة نقل منتشرة هناك- كان يتكلف ألفي ليرة قبل الأزمة أما الآن فيتكلف في الرحلة نحو 30 ألف ليرة.
  • يهاجر اللبنانيون في موجة خروج جماعي هي الأكبر منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990 ولقناعتهم أن مدخراتهم تبخرت، فلا يفكر كثير من اللبنانيين في العودة هذه المرة إذ بدأوا بناء حياتهم من الصفر.
  • الأطباء من بين من يغادرون، وقالت منظمة الصحة العالمية إن أغلب المستشفيات تعمل بنصف طاقتها مع هجرة نحو 40% من الأطباء، وأغلبهم متخصصون، أو عملهم بدوام جزئي في الخارج.
  • وحذر الرئيس ميشال عون، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، من أن الدولة تتداعى.
المصدر : الجزيرة مباشر + مواقع التواصل + وكالات