تاريخ أربكان كلمات مفتاحية لفهم أردوغان

أردوغان مشاركا في جنازة أستاذه أربكان

رغم ما يدور بين علماء التاريخ والحفريات حول عمر البشرية على الأرض الذي يصل إلى ملايين السنين، فإن عددًا محدودًا للغاية من الأشخاص يشار إليهم بالبنان في تاريخ البشرية كلها بأنهم حفروا أسماءهم في سجلات التاريخ. ويأتي الأنبياء المرسلون لهداية البشرية على رأس من لا يزال التاريخ يتذكرهم. وبالطبع قد يكون مصيرنا نحن بعد مدة من الزمن أن تطوي صفحات التاريخ أسماءنا ونبقى في غياهب النسيان، لكن ألا يمكننا الادعاء بأن هناك بعض الأشخاص ممن كانوا قريبي عهد بالحياة قبل أن ينتقلوا عنها مؤخرا، قد تظل أسماؤهم خالدة في ذاكرة التاريخ ومن المحتمل ألا تنساهم. هم أصحاب المبادئ لذلك رغم موتهم يعيشون مئات السنين…

وفي التاريخ السياسي التركي يبدو أن عدد الشخصيات السياسية المؤثرة التي بقيت حية في ذاكرة المجتمع قليل جدا، تماما مثلما هو الحال مع أصحاب التأثير الحقيقي في تاريخ البشرية جمعاء. ومن ناحية أخرى فإن التيارات السياسية التركية وما بينها من اختلافات أيدولوجية ممتدة على طول التاريخ السياسي التركي، ليست أكثر عددا مقارنة بمن يمكن أن نتذكرهم من رواد تلك الأيدولوجيات والتيارات.

الكتابة عن أربكان

في هذا المقال، أود التركيز وتسليط الضوء على الأستاذ الراحل نجم الدين أربكان، الذي أتشرف بمعرفته، واتباع الطريق الذي بدأه، وحمل راية فكرته بطريقة ما. وأود أن أنقل للقارئ – دون أن أفرض عليه شيئا – فكرتي التي تقوم على أن فرصة الإجادة في الكتابة الصحيحة عن أربكان، مؤسسة على الفهم الصحيح لأردوغان بداية وأهدافا ومسيرة نجاح.

الكتابة عن أربكان تعني ارتشاف الرحيق الصافي من ينبوع الأفكار التي تتجاوز العصور وتتمكن من النجاح في القضاء على التعبيرات التاريخية الجامدة التي تلوث – بطريقة ما – الأفكار والمناهج.

الكتابة عن أربكان تعني التركيز على شخصية الإنسان المجاهد ومعايشة قضية حقيقية، وإيمان لا يتزعزع، وتصميم ومثابرة لا تنضب.

الكتابة عن أربكان تعني فهمَ زعيمٍ لم يعرف أي ترهيب يثبط عزيمته ويثنيه عن فكرته، على الرغم مما تعرضت له أحزابه السياسية من الاضطهاد والإغلاق. إذ … لم يكن يُثْنِيهِ عَنْ مَبْدَئِهِ بُهْرُجُ الوَعْدِ ولا نارَ الوَعيدِ …

الكتابة عن أربكان تعني الحديث عن مناخ تربوي حقيقي عمل فيه على تربية عشرات الأشخاص على الأفكار التي آمن بها، في تسامح وتجرد من الأهواء والتصارع على حطام الدنيا الزائلة.

الكتابة عن أربكان أمر لازم؛ فعندما تسمع كل فكرة يطرحها حول سياسة البلاد والعالم لأول مرة، فإنه يدهشك لدرجة تفقدك القدرة على الكلام؛ إذ ستكون في حاجة إلى بذل جهد مضنٍ لفهم عقلية رجل لديه نظرة ثاقبة للمستقبل وكأنه كان يراه في حاضره.

الكتابة عن أربكان تعني الوعي بعبقرية رجل أكد الوقت في كل مرة، وصدَّق كل ما كان يقوله.

كل هذه الميزات الاستثنائية تحمل أربكان إلى ما هو أبعد من كونه مجرد رجل سياسي، وتضعه ضمن كوكبة من الرموز الإنسانية. إذ وضع أربكان نظريات جديدة ومقاربات معاصرة فيما يتعلق بالناس والدولة والعالم، استحق بها عن جدارة أن يتبوأ مكانة لا تُنسى في تاريخ السياسة التركية.

وفي الحقيقة، ربما يكون السبب الأهم والعامل الأكثر تأثيرا الذي يجعل من أربكان استثناءً في التاريخ السياسي التركي، هو أن أردوغان تبنى جميع القضايا والأهداف التي ناقشها أربكان نظريًّا في البداية، وعمل على تحقيقها. فالعديد من تلك القضايا التي بدت مستحيلة في زمن أربكان والتي – لا شك – كان له فيها بُعد نظر، تمكن أردوغان من تحقيقها في الماضي القريب. ولذلك في رأينا، لن يكون من المبالغة القول بأن نجاح أردوغان هو أحد أهم العوامل التي ستضع أربكان في مكان لا يُنسى من تاريخ البشرية. فالسياسة حقيقة ليست مجالا لمناقشات النظرية، وبعبارة أخرى ليس فيها مساحة للأفكار النظرية، فمنذ بداية تصنيف العلوم ظهرت السياسة ضمن مجالات الفكر العملي في أرض الواقع، إذ السياسة تدبير شؤون الدولة الداخلية وعلاقاتها الخارجية.

النظرية الى واقع

وبناء على هذه الحقيقة، فإنه عندما يتعلق الأمر بالسياسة، سيكون من الخطأ في الفهم والتطبيق، أن ننظر إلى التطبيق العملي من قِبل أردوغان لما جاهد أربكان من أجله أو عبّر عنه نظريا على أنه مجرد ممارسة لتلك الأفكار. لأن تحويل النظرية إلى واقع وممارسة حقيقية، يعني وضع الشيء حقيقة في مكانه وزمانه من الوجود أي إيجاده واقعا فعليا مكانيا وزمانيا، وتحمُّل تبعاته لدى المؤيدين والمعارضين. ويمكننا في هذا السياق لجعل الفكرة مرئية في الأذهان أن نستفيد من استخدم ابن عربي في تعبيره عن رؤيته للعلاقة بين الإنسان والزمن، لمصطلحي “ابن الوقت” و”أبو الوقت”، ويعني بـ “ابن الوقت” من يتخلص من هموم الماضي والمستقبل وينشغل فقط بتقييم الحاضر. وبـ “أبو الوقت” الشخص المتحرر تمامًا من اضطرابات كل العصور. وعندما ننظر إلى هذين المفهومين ودلالتهما في السياق السياسي، فإن المفهوم الأول يعني أولئك الذين يدركون قيمة الوقت ويظلون مقيدين بتأثير الزمن، بينما المفهوم الثاني – إذا جاز التعبير – يعني أولئك الذين لا يبقون تحت تأثير الزمن ويصنعون الوقت بأيديهم.

وبناء على هذين المفهومين، يمكننا استيعاب العلاقة بين أربكان وأردوغان في إطار الفترة الزمنية والمناخ السياسي الذي مارسا فيه السياسة معا، لنجد أربكان في ثوب “أبو الوقت” وأردوغان في ثوب “ابن الوقت”، بينما حين نرقب التحويل التطبيقي للأفكار وتوظيفها واقعيا في الوجود، فإن مفهوم “ابن الوقت” ينطبق على أربكان، في حين يتطابق مفهوم “أبو الوقت” مع أردوغان من تلك الناحية.

والنتيجة على أرض الواقع، تعلن استيعاب أربكان وإدراكه للوقت، واستفادة أردوغان من جغرافيا الوقت وصناعته للمفهوم بنفسه أي للوقت…

ومن جدَّ في سعي لأمر تمكنَّا …