رائدات

مع الرائدات

لم يكن بوسع إحداهن أن تتخيل أن يحدث كل شيء كما حدث بالفعل، بتلك السرعة وذاك النجاح الباهر. هكذا هي الحياة أحياناً تفاجئنا بأحداث وأمور تحدث بالفعل كما تخيلنا وأكثر، على خلاف الفكرة السائدة أن الأحلام والطموحات تبقى حذافيرها غالباً أسيرة الخيال.

حين ركبت “رهام عرمان” القطار العائد من برلين إلى إيسن برفقة “نور قضيب البان” تصادَف أن جلست “سلمى شبيب” معهما. كن عائدات من فاعلية “أنا أكثر” ودعوتهن إليه في برلين في مطعم “ملكة” الشهير. ولأن اللقاء كان يضم سيدات أعمال ناجحات بهدف تبادل الخبرات والحلول للمشاكل التي يمكن أن تواجه امرأة تبدأ عملها الحر لأول مرة في ألمانيا، كانت رهام ونور هناك بصفتهن شريكتين في “رانا”، متجر الكرتوني يقدم ملابس أنيقة ومناسبة للمرأة المحجبة، بينما حضرت سلمى اللقاء كذلك كصاحبة موقع “هلال شوب” الذي يختص بديكورات المنزل ذات الطابع الشرقي.

لعل أجواء الفعالية المليئة بالطاقة الإيجابية والإلهام هي التي كانت لا تزال سائدة على تفكير الثلاثة وهن في طريق العودة. كانت رهام غارقة في التفكير وهي تراقب طبيعة ألمانيا الخلابة من النافذة. اللون الأخضر المهيمن على كل شيء ترافق مع هطول المطر بقوة. كان المشهد على جماله رتيباً لا يكاد يتغير، وحدها قطرات المطر التي ارتطمت بالنافذة بدت وكأنها تسعى لكسره. وكأنها تريد أن تصنع فرقاً. راقبت رهام قطرة مطر وهي تتدحرج على طول النافذة حتى التقت بقطرات أخرى فتوحدت معها وأكملت المسير راسمة خطاً طويلاً من الماء. فجأة لكن بقوة ووضوح شديدين، خطرت لها فكرة. قالت لسلمى التي كانت جالسة مقابلهما هي ونور، “لقد خطرت على بالي فكرة للتوّ…أن نقوم بشيء ما أكبر وأعمق تأثيراً من مجرد فعالية أو لقاء واحد. هذه الفعالية في برلين تركت فينا أثراً رائعاً مع أنه ساعات قليلة وتنقضي وموجهة بشكل خاص لسيدات الأعمال. ماذا لو كان اللقاء متكرراً وصار يجمع النساء كلهن بحيث تستفيد كل واحدة من تجارب الأخريات؟”

التمعت عيون سلمى وردت: “صحيح…اللقاءات المتكررة تثمر عن أمور عظيمة بالتأكيد إن كانت الأهداف واضحة منذ البداية…”

تناقشن قليلاً ثم انتهى الحوار بقرار أن يلتقين مرة ثانية في “دوسلدورف” ويفكرن في الأمر أكثر.

رابطة نسائية داعمة للمرأة

بعد مرور أسبوعين تقريبا على حديثهن الأول في القطار خرجت رهام ونور وسلمى بفكرة فريدة من نوعها تتلخص بتشكيل رابطة نسائية داعمة للمرأة بشكل خاص في ألمانيا. وهكذا ظهرت “رائدات” للنور. الشيء المميز فيها أنها تجمع أربع نساء تتميز كل واحدة منهن بشيء ما بحيث تكمل إحداهن الأخرى وتتضافر المهارات الفردية من أجل مصلحة إدارة الرابطة ككل وإنجاحها. فأما سلمى شبيت فدرست العلوم السياسية بالإضافة لكونها ولدت وترعرعت في ألمانيا مما جعلها تتحدث الألمانية كلغة أم وتستطيع بسهولة إيصال صوت الرابطة للإعلام الألماني وبالتالي تسليط الضوء عليها في بداياتها. أما رهام فهي طبيبة في الأساس، تنعكس دراستها للطب في جامعة دمشق على أسلوب تحليلها المنطقي ولغتها العربية المنمّقة التي تنم عن ثقافتها. لكنها ضمت خبرة دراسة الطب إلى خبرة العمل الحر منذ أنشأت بالتشارك مع صديقتها نور شركة “رانا”. نور التي ساعدتها كثيراً وكانت داعمة لها بأفكارها المبتكرة وشغفها الكبير بمجال الأزياء المحتشمة. بالإضافة إليهن توجد بالطبع لين قضماني التي تخرجت من دراسة الإعلام وتخصصت بالتواصل البصري والتصوير فيما بعد، فقامت بإنشاء شركة الكترونية ناجحة للتصوير الاحترافي. تأملتُ في تخصصات وخلفية كل واحدة من مؤسسات الرابطة فأذهلني التكامل الرائع الذي ساقه القدر إليهن، بحيث بدت فكرة الرابطة مبهرة للغاية لكنها بديهية في الوقت ذاته، وكأن ما خطر ببالهن كان يجب أن يكون آجلاً أم عاجلاً.

ومن أجل أن يليق إطلاق رابطة رائدات بالفكرة القيمة والمتفردة التي وراءها، قررن أن يكون الإطلاق على شكل حفل يقام في صالة “برنسس” الجميلة في مدينة إيسن. بأسرع مما توقعت أي منهن تم بيع ٣٦٠ تذكرة للحفل على الفور تقريبا، وظلت قائمة الانتظار تغص بالأسماء.

حين وصلتُ إلى الصالة فوجئت بالمستوى الذي وجدته. الصالة في حد ذاتها في قمة الأناقة والجمال. البازار الذي كان جزءاً من حفل الافتتاح كان متنوعاً بشكل جعلني لا أشعر بمرور الوقت وأنا أتمشى بين الطاولات التي اختصت كل واحدة منها بمشروع تجاري مميز. كل شيء كان يحمل طابعاً ثقافياً. فبين محلات “رانا” و”موديست” التي تختص بثياب المرأة المحجبة كان هناك مشروع مكتبة “ناي” الشهيرة في ألمانيا لكتب الأطفال العربية، ومشروع “لام وسين” الذي يختص بلوحات غرف الأطفال ومشروع مكتبة “أسترُلاب” التي تختص بالكتب الإسلامية المترجمة من العربية إلى اللغة الألمانية.

التجارب الناحجة

بالإضافة إلى مشاريع البازار، كان هناك حوالي العشرين مؤثرة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي تمت استضافتهن من قبل رائدات إلى الحفل حتى تتكلم بعضهن عن تجاربهن الناجحة وتكون مصدر إلهام للحاضرات. أذكر بشكل خاص كلمة “ديمة النجار”، الأخصائية والمرشدة النفسية، التي تحدثت عن مفهوم النجاح في الحياة وعن الفرق الشاسع نفسياً ما بين “حب النجاح” الذي هو مطلب إنساني نبيل، وبين “التعطش للنجاح” الذي يؤدي إلى ربط قيمتنا الذاتية كأفراد بمعايير النجاح المادية، والتي إن لم تتحقق انجرف صاحبها في دوامة من الإحباط تعيقه عن إكمال مسيرته في السعي للنجاح أصلاً. وعقبت ديمة النجار على أن النجاح غير أنه لا يمكن تحديده واختصاره بعدد “اللايكات” أو عدد المتابعين، فإنه لا يأتي سريعاً دائماً، بل هو رحلة تستغرق الوقت والاستمرارية.

بعد ديمة النجار صعدت “بيان عدنان” إلى المنصة لتتكلم عن خبرتها كطالبة ماجستير في علم الاجتماع ومحاضِرة في المجال نفسه. أعجبني كلامها حين تحدثت عن أهمية ألا نسمح لأحد أن يختصر “هويتنا” في شيء واحد مهما كان…فكل اختصار يحدُّ مننا ونحن واسعون تتزاحم في داخلنا هويات شتى. لا يجب إذا أن نختصر أنفسنا نحن النساء في دور أو مسمى واحد، إن كان دور الأمومة أو دور المرأة العاملة أو الزوجة أو غيره، لأنه بوسعنا أن نكون كل ذلك معاً وأكثر حتى إن شئنا، فنحن بطبيعتنا البشرية أكثر عمقاً وتعقيداً من أن نُختزل في كلمة أو صفة واحدة!

موضوع الهويات المختلفة ذكرني أيضا بمشروع مؤثرة أخرى بين المؤثرات اللواتي كن حاضرات في “حفل رائدات”. ذلك المشروع هو “لام وسين” لصاحبته لينة ملحم التي اشتهرت بين الجالية العربية في ألمانيا بمشروعها الفريد الذي تقدم من خلاله لوحات أسماء وحروف الأبجدية العربية و”قيم العائلة” وغيرها من الكتابات الأنيقة باللغة العربية على “الكانفاس”.  ومشروعها برأيي لا يقل أهمية عن صفحتها على الإنستغرام التي تدعى “ماما لينة” والتي تنشر عبرها تعليقها وخواطرها عما تقرأه في كتب التربية وعلم نفس الطفل، بالإضافة إلى يومياتها مع بناتها. ما يلفت المرء حين يتابع حساب لينة ملحم هو ذلك التكامل الغني من الهويات الذي يعيدنا إلى كلام بيان ويذكرنا كم صار العالم متقارباً ومتداخلاً في أيامنا، وكم صار ضرورياً أن ننفتح على العالم نؤثر ونتأثر ونصنع شبكة نسائية تضمنا كما رائدات.

ولأن الهوية يستحيل أن تكون في زماننا هذا ذات وجه واحد وبسيطة كما كانت في السابق قبل العولمة وقبل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي. يتبادر إلى ذهني السبب، حسب تحليلي الشخصي، فيما يمكن أن يكون سبباً من أسباب نجاح صفحة ماما لينة هنا في ألمانيا. أعتقد أنها تعبر بعائلتها الصغيرة عن نموذج العائلة العربية الحديثة التي تجمع ما بين الحرص على تعليم أولادها اللغة العربية وقيم ديننا الإسلامي وبين أسلوب حياة حديث نرى فيه لينة تقوم برحلات على الدراجة في غابات ألمانيا مع بناتها الثلاث الصغيرات وتسافر وتقرأ وتعمل في مشروعها الخاص. ذلك النموذج المعاصر لذي يزداد مع انخراطنا كسوريين وكجالية عربية في مجتمعات جديدة نسبياً واكتسابنا لعادات ومعارف جديدة مع رغبتنا بالتمسك بقيمنا ومبادئنا في آن واحد. هو باختصار تعدد هويات، وهو الأمر الذي يجب علينا أن نعيه وندرك أهميته برأيي لأنه يثرينا إن تصالحنا معه بل وسعينا إليه.

رأس المال الاجتماعي

لم أكن قد انتهيت بعد من التسوق من البازار والتعرف على المنتجات المختلفة حين قامت سلمى بدعوتنا من خلال الميكروفون لنأخذ أماكننا حول الطاولات من أجل بداية فقرات الحفل. كانت الكلمة الأولى لرائدات للتعريف عن الرابطة، حيث تكلمت رهام أولا، وقالت إن الفكرة كلها تتمحور حول تمكين المرأة من خلال تكوين شبكة علاقات داعمة. كان من ضمن ما أثار إعجابي بشكل خاص الرقي الذي امتد حتى أدق تفاصيل الحفل. فحين بدأت رهام كلمتها أمام الحضور وأمام كاميرات قناة WDR الألمانية التي حضرت خصيصا لتغطية الحدث، قالت: “لقد اعتمدنا في التأسيس لرابطتنا على مبدأ رأس المال الاجتماعي. من خلال عقد لقاءات وورش عمل وفعاليات دورية، سنشجع المرأة على أن يكون لها تأثير إيجابي على المجتمع، لتلعب دورًا فاعلًا. الشبكة التي ستتم من اجتماعاتنا ستؤدي في نهاية المطاف إلى إنشاء علاقات تعاون سواء في مجال ريادة الأعمال أو خارجه. إن ما يهمنا فعلاً هو عنصر التواصل المباشر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى ولادة أفكار ملهمة وشراكات بين الأشخاص ترتقي بحياة المرأة على الصعيد الشخصي والمهني. وفي حين أن وسائل التواصل الاجتماعي قد وفرت لنا بالتأكيد طريقة سهلة للالتقاء والدردشة بشكل افتراضي، نحن في رائدات نهدف إلى الجمع بين الاتصال الافتراضي والحقيقي وجهاً لوجه، ذلك الذي تلعب فيه نبرة الصوت ولغة الجسد دورًا أساسياً. ”

بالفعل تكمن فكرة رأس المال الاجتماعي في كونها داعمة بحد ذاتها، إلى حد أن اسمها بحد ذاته إيجابي! يتحدث عنه المفكر والكاتب في علم الاجتماع الفرنسي “بيير برديو” بقوله:

“إن رأس المال الاجتماعي هو رصيد اجتماعي من العلاقات والرموز يتفاعل مع الرصيد الذي يملكه الفرد من رأس المال المادي، فهو رصيد قابل للتداول والتراكم والاستخدام، فالفرد عندما ينشئ شبكات اجتماعية) … (فإنما يكون لنفسه رصيدا اجتماعيا وثقافيا يزيد من مصالحه ومن رصيده من القوة والهيبة. ومن ثم تظهر الإمكانية في تحويل رأس المال الاجتماعي إلى رأس مال مادي مثلما يتحول رأس المال المادي إلى رأس مال اجتماعي.”

يعتمد رأس المال الاجتماعي إذن على شبكات العلاقات الإنسانية التي، بمجرد إنشائها، تصبح مصدر دعم معنوي للمشاركات فيها. كان من ضمن الكلمة التي ألقتها رهام أنها تحدثت عن دراسة[1] قامت بها جامعة هارفرد وصدرت عام ٢٠١٩ في مجلة Harvard Business Review أن النساء اللواتي تتمتعن بشبكة علاقات قوية مع نساء أخريات تتمتعن بصحة نفسية أكبر وتوتر أقل في حياتهن اليومية وملن للتفكير بإيجابية والتقدم بشكل ملحوظ في حياتهن المهنية أكثر بثلاث أضعاف من النساء اللواتي لا تمتلكن القدرة أو الرغبة على خلق وتوثيق العلاقات مع غيرهن. لفت انتباهي خلال كلمة رهام قولها إن الرابطة تأسست لدعم المرأة بغض النظر عما إذا كانت جزءاً من ريادة الأعمال أم أماً، وإن كانت المشاريع التي تنضوي تحت رائدات يمكن أن تشكل بلا شك مصدر إلهام للكثيرات لأن تتجاوزن منطقة الراحة وترين أمامهن نماذج ناجحة في ألمانيا يمكن الاقتداء بها. أكدت رهام في كلمتها أيضاً على قولها بأن “رائدات رابطة موجهة للمرأة بغض النظر عن أصولها أو دينها. الفكرة هنا أن نجتمع من خلال الندوات والمحاضرات من أجل تبادل المعرفة والخبرات بحيث تجد كل واحدة ما يلهمها في المجال الذي تميل إليه وتجد فيه نفسها.”

وبتلك الكلمات أتمت مؤسسات “رائدات” كلامهن لتقوم سلمى بدعوتنا بأن نتفضل بالتوجه إلى البوفيه الذي كان مبهراً بأطباقه الذهبية وأصناف الطعام الشهي من المطبخ السوري. وبينما جلسنا حول الطاولات المزينة بباقات الورود التفتُّ لألقي نظرة على الحضور من حولي. كل تلك النساء الطموحات اللواتي جلسن يتبادلن أطراف الحديث ما بين مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي وصاحبة “بزنس” ونساء أخريات تحلمن بوضع بصمتهن الخاصة. الأجواء التي سادت الحفل في تلك اللحظات كانت مميزة بلا شك. كل شيء كان يتسم بالأناقة ذاك المساء من الملابس التي ارتدتها الحاضرات وحتى رقي الصالة وقبل هذا وذاك رقي الكلمات التي ظل صداها مدوياً في أذهاننا للأيام التي تلت الحفل، لتمدنا بمشاعر التفاؤل والحماس الذي يرافق عادة المشاريع الرائدة التي تُعلن عن ولادة مجتمع نسائي جديد يليق بنا جميعاً.