‏مسحوق أبيض

الملح

قد يعتقد البعض أن الإدمان على مسحوق أبيض نعني به الإدمان على مخدر الكوكايين، وقد عززت السينما وهذا المفهوم وترسخ في وجدان الجميع.

‏في هذا المقال وربما نحتاج إلى مقالات أخرى، نحاول أن نسلط الضوء على عدد من المساحيق البيضاء التي ندمن على استعمالها يوميا والتي تسبب أضرارا صحية ووفيات أكثر من إدمان الكوكايين.

الملح والسكر والدقيق كلها تسبب الإدمان وكلنا مدمنون عليها بدون أن نعرف

لو كنت عزيزي القارئ من النوع الملول العصبي المتعجل للنتائج فنهاية هذا المقال هي توصية بتقليل الملح والسكر والنشويات في الطعام للحد الأدنى وبعد فترة بسيطة سوف تعتاد على الطعم الأصلي واللذيذ للطعام بدون إضافات وتستعيد ما كان يشعر به أجدادنا قبل آلاف السنين من لذه للطعام والشعور بالجوع فقط عند الحاجة وليس بسبب الإدمان.

من أراد إكمال المقال فسوف نتحدث بشيء من التفصيل عن كل نوع، أرجو أن تستعد نفسيا لبعض المعلومات المكررة والمملة.

عاشت البشرية قبل اكتشاف الملح والسكر بصورتهما النقية (على شكل مسحوق أبيض) وقبل طحن الحبوب مثل القمح والشعير والأرز على شكل دقيق، آلاف السنين بدون الحاجة لتلك المواد، وقد تغذى أجدادنا ‏على الحبوب الكاملة واللحوم والخضروات والفاكهة وأيضا الحشرات ‏وكلها كانت بطعمها الطبيعي بدون أي إضافات. حاليا الملح موجود في كل الأطعمة تقريبا والسكر في كل الحلويات والخبز الذي يصنع من الدقيق هو عنصر أساسي في غذاء كل الشعوب.

الملح

الطعم المالح وهو واحد من خمسة أطعمة يتذوق بها الإنسان طعامه (الحلو، المر، الحامض، المالح، الأومامي) ويتعرف الشخص على الطعم عن طريق حليمات التذوق الموجودة في الفم وعلى اللسان ومنطقة أعلى البلعوم. هناك حليمات تذوق بأنواع مختلفة وعند استثارتها عن طريق مواد معينة ينتقل السيال العصبي عبر الاعصاب للدماغ إلى مركز التذوق. يعطي الدماغ مكافأة للشخص بالشعور بالمتعة عند الأكل وذلك للطعم الحلو والمالح (بكميات معينة) وكذلك للطعم الأومامي، أما الطعم المر والحامض فهو يدل على فساد الطعام ولذلك يعطي الدماغ شعورا سيئا وذلك ليبتعد الشخص عن أكل تلك المواد.

إثارة حليمات التذوق الخاصة بالطعم المالح تكون بواسطة أملاح الصوديوم ولأن الصوديوم مادة أساسية للحياة فإن ذلك يعطي شعور بالمتعة واللذة، يقصد الدماغ هنا تناول الطعام الذي يحتوي على الصوديوم بطريقة طبيعية (تقريبا كل أنواع الطعام) وليس كلوريد الصوديوم بصورته النقية.

كلنا نحس بالمتعة عند تناول المخللات، والسمك، واللحم المملح، والأجبان.. إلخ منفردة أو بجانب الطعام وذلك لأن إثارة حليمات التذوق الخاصة بالطعم المالح يعزز أيضا من الإحساس في حليمة التذوق الأخرى ويظهر الطعم بصورة أقوى فيعتاد الشخص على الطعم القوي ولا يستسيغ الطعام بدون ملح أو مقبلات مالحة.

هناك عائلات ومجتمعات تضع كميات كبيرة من الملح على الطعام وهناك عائلات ومجتمعات معتادة على كميات أقل من الملح وكلهم يعيشون بسعادة ويتمتعون بالطعام ولكن النوع الأول لا يستفيد سوى الأمراض المزمنة التي يسببها الملح وتظل متعة الطعام متساوية عند الجميع وذلك بسبب التعود. كلنا نلاحظ أن أي شيف محترف لا يحدد كمية الملح في الوجبات وإنما يقول الملح حسب الرغبة أو حسب التعود، إذن ما رأيكم أن نعتاد على كميات ملح أقل وصدقوني لن نخسر متعة الطعام اللذيذ وسوف نكسب سنوات أكثر من الحياة بصحة أفضل.

كان استهلاك الإنسان في مرحلة ما قبل الزراعة (مرحلة الجمع والصيد) أقل من غرام واحد من الملح، يحصل عليه بشكل طبيعي من المصادر الحيوانية والنباتية وما زالت بعض القبائل البدائية في منطقة الأمازون تعيش بنفس الطريقة وتقريبا بنفس كمية الملح اليومية. حاليا، قدرت منظمة الصحة العالمية المعدل اليومي العالمي لاستهلاك الملح بـ9 غرامات -12 غراما للشخص يوميا وتقول المنظمة إن تقليل استهلاك الملح للنصف تقريبا سيكون له تأثير كبير على معدل انتشار أمراض ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية، مما يؤدي إلى تجنب ما يصل إلى 2.5 مليون حالة وفاة بسبب النوبات القلبية والسكتات الدماغية في جميع أنحاء العالم كل عام.

توصي منظمة الصحة العالمية بمقدار أقل من 5 غرامات من الملح يوميا للشخص البالغ (2 غرام صوديوم) شاملا الملح الموجود بشكل طبيعي في الأطعمة

تاريخيا، لا ‏نعرف من أول الشعوب التي استخدمت الملح في الطعام ولكننا نعرف أن البحر الميت الموجود في فلسطين ساهم بشكل كبير في إمداد كل البشرية بملح الطعام وقد استفاد التجار من هذه المادة وانتشرت في جميع أنحاء العالم. وقد استخدم الملح بدل العملات في الماضي وكان مساويا للذهب ويكفي أن نعرف أن كلمة (salary) بمعنى مرتب مشتقة من كلمة (salarium) وهي كمية من الملح كانت تعطي للجنود بدل المرتب. وقدست بعض الشعوب الملح وكان رمزا للنقاء والطهارة ودخل حتى في السحر إذ يدعي المشعوذون أن الملح يطرد الشياطين ويعالج السحر.

ضريبة الملح كانت أحد أسباب الثورة الفرنسية وقد أعدم ما يقارب 3500 شخص بسبب تهريب الملح قبل الثورة

رأيي المتواضع أن البشرية بالغت في تقدير الملح في الماضي، فهو لا يساوي الذهب لأن في المحيطات مخزون لا ينضب من الملح والملح أيضا ليس مقدسا ولا طاهرا ولا يعالج السحر، بل هو فخ وقع فيه الإنسان وجاء الوقت للفكاك منه بإخلاص.