بين مطرقة الاستحواذ وسندان الاندماج

أردوغان

 

إن مسألة إنشاء الإنسان للوطن أو اتخاذه مكانا ما وطنا، مسألة ترجع في أحد شقيها إلى القدر، وفي الآخر إلى الموقع الجغرافي. هذا حسب تعبير ابن خلدون الذي لا أدرى مدى توفيقه حين قاله “الجغرافيا هي القدر”. ومع ذلك، فإن نصيبا من هذا القدر يقع على عاتق الإنسان. على الأقل من الضروري ألا نتجاهل تعلقه به. بعبارة أخرى، إذا كان لا يمكن لأي شخص أن يختار المكان الذي ولِد فيه، فإنه يستطيع إلى حد كبير تحديد طبيعة الظروف وتشكيل الجغرافيا التي ستولَد وتنشأ فيها الأجيال القادمة.

في السياق ذاته، إن الإنسان هو الذي يضع بنفسه الأنظمة والمؤسسات التي سيُقَيِّم من خلالها إنجازاته ومكتسباته. ومع ذلك، فإن طبيعة الإنسان البشرية تعطي الأولوية للخير والصالح المجتمعي. ولذلك عندما يتعلق الأمر بموضوع الخير والفائدة المجتمعية، فإن المكتسبات والإنجازات تعني في المقام الأول الأمان والاستقرار. فالأمان والاستقرار مفهومان يؤكدان المسعى البشري لقراءة المستقبل والتوقع به على أساس أنه استمرار للماضي في أغلب الأحيان. أي إن بني البشر يرغبون في توقع ما سيكون عليه المستقبل من أجل تقييم ما وصلت إليه البشرية من مكاسب. لكن هذا التوقع هو مجرد اسم للإجراء، أمّا ما تسعى البشرية للوصول إليه في الواقع هو الأمان والاستقرار.

الملاذ الآمن

ومما لا تخطئه عين منصف، فإن تركيا قد تمكنت من توفير الملاذ الآمن، بفضل ما تمتعت به من الاستقرار السياسي الممتد خلال ربع قرن. حيث إن المواقف والمبادرات التي اتخذها الرئيس رجب طيب أردوغان، في مواجهة الأزمات العالمية، لا تأخذ بيد تركيا فحسب، بل بيدها هي وكل الدول التي تعمل جنبا إلى جنب معها، وتصنع منها مراكز للأمان والاستقرار.

وخير مثال على ذلك ما شهده العالم من تألُّق دبلوماسية إسطنبول مرة أخرى، وإثباتها قوة تركيا وموقفها المنضبط تجاه الصديق والعدو على حد سواء، عندما بدأت آثار أزمات الغذاء والطاقة التي سببتها الحرب الروسية الأوكرانية تظهر آثارها في جميع البلدان. وبشهادة المنصفين، كان للمساعي التركية الفضل في فتح ممر آمن لنقل الحبوب التي تنتظرها عشرات الدول وملايين الناس.

إن محاولات المصادرة غير القانونية الجشعة والوحشية من الدول الغربية خاصة، والاستيلاء على الأصول الروسية ورجال الأعمال الروس، دافع قوي لرأس المال إلى البحث عن بلدان آمنة جديدة، فضلا عن أن تلك المناهج التي تكيل بمكيالين وتتجاهل حقوق الملكية الشخصية وتصادر أصول عشرات الأشخاص على أساس جنسياتهم والدول التي ينتمون إليها فقط، أدت مرة أخرى إلى التشكيك وإثارة التساؤلات بشأن مصداقية أنظمة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربي.

مركز جذب

وتزامنا مع تهاوي مصداقية العديد من الأنظمة، تمكنت تركيا من أن تصبح مركز جذب للمستثمرين الجدد وأصحاب رؤوس الأموال. فالفرص الجديدة والإمكانيات التي توفرها في مجالات عديدة -بدءا من مجال الإنشاءات إلى الصناعات الثقيلة- تثير لعاب المستثمرين وتزيد ثقتهم. هذا إلى جانب أن نجاح تركيا في صناعة الدفاع بشكل خاص بدأ يجذب انتباه رؤوس الأموال من جميع الدول، نتيجة لما أدت إليه نجاحات الطائرات المسيّرة إلى تغيير المفاهيم القتالية واستعادة توازن القوى.

مما لا ريب فيه أن خلف كل نجاح قصة كفاح، ومن الطبيعي أن يكون لهذه القصة فريق من الشركاء الفاعلين والمستفيدين. ومن مقتضيات تلك الشراكة ومصلحة هؤلاء الشركاء، وحدة المصير والسير نحو المستقبل معا. وبالطبع في أي قصة، ليست كل الأدوار على الدرجة نفسها من الأهمية والفاعلية، لكن أي دور منها لا يخلو من معنى وقيمة في ذاته وفي وجوده بين الشركاء. لذلك فإن عمليات التقارب الثقافي والتعاون السياسي والاقتصادي الذي سيتم وضع لبناته في محيط الجغرافيا الإسلامية سيوفر للعالم الفرصة ليكون أكثر ملاءمة وقابلية للعيش، في هذه الفترة التي يبحث فيها العالم بشتى مذاهبه عن توازن أمني جديد.

وبعبارة أخرى، فإن إعادة تشكيل نظام أمني جديد، تسهم فيه كل دولة بنصيب مع محافظتها على سمتها ومميزاتها التي تتفرد بها، سيعمل على تهيئة بيئات من الأمان والاستقرار وتوفير مناطق آمنة في محيطنا الجغرافي القريب، وهو الأمر الذي ستتطلع معه الأمم إلى المستقبل بمزيد من الأمل والإشراق.