قدَر العالم الاسلامي!

 

في العصر الحديث والتقدم المشهود على مختلف الأصعدة، كان المنتظر المضي قُدما في تجربة التعايش السلمي إلا أنه على النقيض من ذلك، عانت الشعوب فيما بينها من العمليات المؤلمة والمخيبة للآمال، وقد كان نهب عالمنا من قِبل الاستعمار والرأسمالية المتوحشة ومحاولات سد ما تركته الإمبراطوريات العظيمة البائدة من فراغ، دافعا لجميع الدول على بُعد الشُّقة بينها، إلى خوض غمار الكفاح الوطني الخاص لاكتساب استقلالها. ومع اختلاف التوقيت والأساليب، فإن جميع الدول الواقعة حدوديا داخل العالم الإسلامي قد حققت استقلالها عبر صراعات شرسة.

إن كل الأمم السالفة الذكر، ذات الدين الواحد والعادات والتقاليد الواحدة، على أعتاب عيش التجربة نفسها مرة ثانية في الوقت الراهن. وفي هذا السياق، فإن الروابط الوثيقة والعلاقات الوطيدة التي أقامتها شعوبها بعمق وهدوء، وتحافظ على توازن القوى السياسية، تشكل نقطة أساس في التعايش والوحدة مرة أخرى والمضيّ معا قدما نحو المستقبل.

وبطبيعة الحال، فإن الشعوب التي تمضي معا نحو المستقبل نفسه وتسعى لتحقيق الحلم ذاته في كل المعمورة، ليس من المنتظر أن تكون على ذات المستوى وبنفس درجة النجاح. وعند وضع دولة ما في مقارنة بغيرها من الدول، فمن الطبيعي أن تتقدم دولة على قرينتها وتكون في مستوى أعلى منها قِيميّا ووجودا اجتماعيّا، وكذلك تكون دولة أخرى متقدمة في موضوعات الإنسان والدولة. لكنْ الأمر ذو الأهمية في هذا الصدد هو اعتبار هذه التعددية والاختلاف، فرصة للتعاون والتضامن لا التنافس.

بناء على ذلك، فإن العالم الإسلامي لكي يتسنى له المحافظة على بقائه وديمومة فعاليته، ينبغي لكل أعضائه العمل معا لإنشاء كيان ووحدة قائمة على المساواة، فإن الاتحاد يعني وحدة في الإمكانيات وتكافؤا في الفرص.

ففي حين أن “الوحدة – واحد” بالمعنى المطلق تعني القضاء على جميع الخلافات الفعلية والنسبية، فإن معنى “الاتحاد – معا” يعني بناء رابطة عامة مع الحفاظ على الوحدة الخاصة. إن “الاتحادات – الجمعيات” تتكون من “الأفراد” الذين هم على قدم المساواة ومتكافئون.

الأحدية والوحدانية

إن “التعدد أو الاختلاف النسبي” بين “الأَحدية” و”الوَحدانية”، كما وصفها القدماء، تشير -في رأينا- إلى اثنين من المفاهيم يمكن استخدامهما خارج دلالتهما الدينية الخاصة، في سياق التعبير عن وحدة العالم الإسلامي وتنوعها في الوقت نفسه. وإن تدشين فكرة “الأَحدية” في أذهان الشعوب يتعارض موضوعيا مع مضمون فكرة أنه شعب في الأساس، لأن الشعب اسم يدل على الجمع، كما أن التعددية والصفة الجمعية متأصلة في طبيعة الشعوب. ومن ناحية أخرى، فإن مفهوم “الوحدانية” يمكن تفسيره باعتباره الوفرة (التعددية) النسبية الكامنة في شخصية الشعوب نفسها، وإدراك إمكانية تحقيق الوحدة ضمن هذه التعددية.

في هذا السياق، نرى أن هناك حاجة ماسة إلى تنظيم جديد ومنهج معاصر للمحافظة على تماسك العالم الإسلامي. ومن هذا المنطلق، فإن آليات الإدارة الجديدة ومنظمات التضامن المزمع إنشاؤها، ومساعي التعاون في مجال الثقافة والتعليم، يمكن اعتبارها بمثابة الخطوات الأولى لتحقيق الوحدة مع الحفاظ على التعددية.

أعتقد أنه من الضروري في هذه المرحلة الاستئناس بالتاريخ، والاستشهاد بالشخصيات المرموقة في التاريخ مثل ابن خلدون. فكما هو معلوم، لدى ابن خلدون نظرية عصبية أو عصبة، وهنا يمكننا شرح هذه النظرية بإيجاز دون تعمق على النحو التالي: عصبتنا تعني وجودنا، فنحن موجودون ما دمنا معا، ويجب أن نكون معا ما دمنا موجودين.

وانطلاقا من هذا الأصل، تتشكل الحكومة بطريقة ما من هذا الاتحاد، علاوة على أنه من مقتضيات تصديق هذا التعبير والإيمان بهذه الدعوة، يصبح من الضروري النضال من أجل البقاء معا.

ومن وجهة نظر العالم الإسلامي، تعني هذه الدعوةُ المطالبةَ بعالم عادل أو بنظام عالمي بتعبير القدماء، أو بعالم صالح للعيش على حد تعبير جيل التسعينيات، أو بالتعبير الحالي -أو الاعتراض الحالي- أن العالم أكبر من خمس دول.

وخلاصة القول: من أجل ضمان نظام العالم، وجعله أكثر ملاءمة للعيش دون تمييز على أساس اللغة والدين والعرق واللون، ومن أجل التعبير عن أن دعوى تفوُّق الدول الراعية التي ترى نفسها متميزة في العالم، هي دعوى لا أساس لها من الصحة في الواقع. وباختصار، من أجل عالم أكثر عدلا، فإن قدَر العالم الإسلامي هو أن يبقى واحدا متماسكا، وأن يعيش متحدا ويمضي كتفا بكتف إلى آفاق جديدة.