“الانسان الماعز”

 

هناك فئة تُنسى غالبًا، خفيّة لا يراها معظمنا حتى مع وجودهم حولنا دائمًا، يحضرون بصمت ويعملون بصمت. أتوا من أماكن قاصية حتى يجمعوا قوت يومهم لمساندة عائلاتهم، ويشترون دُمىً لأطفالهم وثيابًا تكسو حظهم البائس. إنهم العمالة الهامشية الذين أُجبروا على ترك جُل ما بأيديهم والانتقال الى بُلدان مختلفة آملين أنها ستعيد لهم الحياة. سيعيشون بها أحلامهم ويأخذونها معهم مرة أخرى إلى بُلدانهم، كما آمن نجيب الذي تغرّب عن عائلته بعد مشقة جمعه لأموال السفر ومستلزماته تاركًا خلفه زوجته الحامل وعائلته وأصدقاءه، كما ترك عمله البسيط الذي وإن لم يكفه ماديًا فقد أصبح حُلمًا بعدما عاش الكابوس.

لقد سافر ليُفاجأ بحظه العاثر وسيّده (أرباب كما سمّاه) الذي امتلك أقبح رائحة -كرائحة الأغنام- وأقسى قلب اقتاده خلفه ليموت من الحر في صحراء خاوية. الرائحة التي أصبحت جزءًا منه، والصحراء التي شكلته على شاكلتها بائسة وخالية بلا أمل غير صورة ماضيه السالفة، حيث يعمل بها راعيًا في المسرة (المزرعة) التي أصبحت سببًا لآلامه لمدة ثلاث سنوات وأكثر قبل هروبه.

أيام الماعز

لقد تناول كتاب (أيام الماعز) السيرة الذاتية لنجيب الذي أتى من الهند، وترجمه الروائي بنيامين، الذي تحدّث بصراحة عن سنوات ضائعة تحكي الكثير عن تعامل البعض مع العمالة البسيطة، وأوضاعهم والقهر الذي يتعرضون له، والخذلان الذي يعيشونه بعد سفرهم إلى أماكن عملهم.

القهر الذي كان له أوجه أخرى لم يعتدها أو يتخيلها نجيب، فحتى أبسط حقوقه الإنسانية أُعدمت، فكان لا يُسمح له بالاستحمام أو الاستنجاء، يُركل ويُضرب إذا همس، ويُترك في العراء على الرمال لينام فارشًا حرارة الطقس وقسوته. أما عن أصناف الطعام والشراب، فقد كانت وجبته اليومية من “الكبوس” (الخبز) الذي يتجرعه مع كوب ماء مالئًا معدته به في وجبات الطعام الثلاث. وهو الذي كان يحلم بتناول ألذ الأصناف من مائدة لم يُشاهَد لها مثيل، شيء بديل يعوضه عن التقشف الذي عاناه في بلاده، ولكن “تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”.

وفي النهاية، اكتشف نجيب أنه أصبح بعد هذه المعاملة غير الإنسانية واحدًا من قطيع النعاج في المزرعة، كما اعترف بمرارة بتحوّله إلى “الإنسان الماعز” الذي ذهبت كرامته حينما هاجر ليحافظ عليها!

على الرغم من آراء البعض وتكهناتهم بأن أحداث الرواية مُبالَغ فيها الى حد ما، وأن الكاتب أضاف إليها ما أضاف مُستعينًا بخياله الخصب، فإنها تُسلّط الضوء على ظاهرة تهميش العمالة البسيطة، وحرمانها أبسط حقوقها من بعض الكفلاء أو أصحاب العمل.