الفخّ القاتل

بوتين

هل تعلمون ما هو فخ ثوقيديدس؟

إنه الفخ الذي يدار بنظريته العالم وهو (عندما تصبح قوة عظمى مهيمنة مُهددة من قبل قوة صاعدة فاحتمالية وقوع حرب بين القوتين حتمي)، هكذا يقوم الصراع بين غيلان العالم لاقتسام لحوم أغنامه بلا رحمة.

ظهرت هذه النظرية أول مرة لتفسير الصراع بين إسبرطة القوة العظمى المهيمنة وقتها وبين أثينا القوة الصاعدة، وبرغم أن الأمر انتهى بهزيمة إسبرطة فإن الدول العظمى إلى الآن تطبق هذه النظرية لتتخلص من منافسيها الصاعدين.

ومن إسبرطة إلى القرم سنة 1853 حيث رأت بريطانيا إحدى القوى العظمى وقتها أن روسيا أصبحت تزداد قوة ويجب إيقافها. وكان الحجر الذي أسقط روسيا في الفخ هو الخطأ الذي ارتكبه القيصر نتيجة تعجله لنيل أكبر نصيب ممكن من تَركة رجل أوربا المريض الذي كان الجميع يدرك أنه في طور الاحتضار.

فحاول نيقولا أن يقنع فرنسا وإنجلترا كلًّا على حِدة بالتحالف معه لتقاسم الإمبراطورية العثمانية إلا أن الدولتين رفضتا العرض الروسي لإدراك كل منهما أن دخول الروس في تلك المنطقة سيهدد مصالحهما، خاصة المتعلقة بالطريق بين إنجلترا ومستعمراتها بالهند، وعليه فإن مصلحتهما تقوم بالحفاظ على الجسد العثماني من التمزق لأطول فترة ممكنة.

قررت بريطانيا أن تنصب مصيدة بعناية للإيقاع بروسيا في حرب ضد الدولة العثمانية واستغلال تلك الحرب لتوجيه ضربة عنيفة لروسيا تدفعها للارتداد خلف حدودها مرة أخرى، وتحجبها عن الظهور على مسرح السياسة الأوربية، من دون القضاء عليها ليظل الصراع بين العثمانيين والروس هو السلاح الذي يوقف الآخر عن التقدم ويحمي مصالح الغرب حتى يأتي الوقت المناسب لتستولي بريطانيا وفرنسا على التركة العثمانية. لذا أطلعت بريطانيا العثمانيين على حقيقة النيات الروسية السرية، وكانت المصيدة ترك روسيا تعتقد أن الغرب المسيحي لن يقف في وجهها وهي تستولي على الأراضي العثمانية فكانت أوكرانيا أول محطات روسيا للتوسع ثم استولت على شبه جزيرة القرم، وأقام الروس قاعدة بحرية بها وبعد عام من الحرب فوجئت روسيا بحشود أساطيل بريطانيا وفرنسا تساند الدولة العثمانية وتعلن الحرب على روسيا.

كانت أهم أهداف الدول العظمى هي القضاء على القوة البحرية للدولة الجديدة الصاعدة وتحجيمها، وقد تم لهم ذلك بعد محاصرتهم لأسطول الروس في البحر الأسود، الذي كان البريطانيون والفرنسيون يرونه تهديدًا لهم في البحر المتوسط.

رغبت بريطانيا وفرنسا في الإبقاء على الروس قوةً برية حبيسة أطول زمن ممكن خلف بحر البلطيق بعيدًا عن المياه الدافئة التي حلم بها كل القياصرة عبر العصور.

وبعد هزيمة روسيا وتدمير أسطولها، جلس الغرب على طاولة التفاوض ليُظهر للعلن الهدف الحقيقي لحرب أوربا لروسيا وتشجيع الدولة العثمانية لدخول تلك الحرب ليضربوا عصفورين بحجر واحد.

أهم بنود المعاهدة

  • تحجيم قوّة الروس، وتقوية الدولة العثمانية بالشكل الذي يُحقِّق توازن القوى في شرق أوربا، وبالتالي يمنع روسيا من التضخُّم مستقبلًا على حساب أوربا.
  • قضت المعاهدة بتجريد البحر الأسود من السلاح، ومنع روسيا من إنشاء ترسانات عسكريّة في موانئ البحر الأسود.
  • أعطت المعاهدة حقَّ إدارة المضايق للدولة العثمانية.
  • إعطاء شبه جزيرة القرم لروسيا التي كانت قد استولت عليها من الدولة العثمانية.
  • أعادت قوات الحلفاء إلى روسيا المدن الروسيّة التي كانت قد سقطت في يد الدولة العثمانية أثناء هذه الحرب شريطة عدم بناء تحصينات عسكريّة بها.
  • أقرَّت المعاهدة باستقلاليّة الدولة العثمانية، وسيادتها على أراضيها، وإن كانت قد أقرَّت بالحكم الذاتي للإفلاق والبغدان تحت رعاية أوربّيّة.

في النهاية خرجت الدولة العثمانية منتصرةً في الظاهر ولكنها في الحقيقة كانت الخاسر الأكبر، حيث كانت حرب القرم البداية التي انتهت بها أملاك الدولة العثمانية في منطقة شرق أوربا.

ومن حرب القرم قبل بداية الحرب العالمية الأولى إلى حرب القرم قبل بداية الحرب العالمية الثالثة، فإن اللاعبين لم يتغيروا كثيرا ولم تتغير الأهداف ولا الوسيلة.

الفخّ

فبنفس الخدعة القديمة تنصب أمريكا الفخ لروسيا بنفس المنطقة ولكن هذه المرة لاصطياد أكثر من عصفور.

  • ردع وتحجيم لاعب جديد يريد الصعود لمسرح القوى العظمى وهي الصين وفي نفس الوقت
  • لردع الدب الروسي الذي يطمح إلى أن يستعيد أمجاده بالإضافة إلى توسيع رقعة سيطرته في المياه الدافئة بعد أن وضع قدمه في سوريا.

ولكن هنا أصبحت أمريكا وأروبا أمام قضية ضخمة يجب الإسراع في حلها لأن الحرب مع الصين أصبحت ضرورة حتمية، ولكن كيف سيحاربونها ولديها حليف قوي كروسيا يقع على حدودها يحلم باستعادة مجد القياصرة وسطوة الاتحاد السوفيتي ليس على أوربا الشرقية فقط بل ابتلاع أوربا كلها، فإذا بدأت الحرب مع الصين وقتها ستجتاح روسيا أوربا وتقع أمريكا بين سندان الصين ومطرقة الروس وتخسر حلفاءها الأوربيين، لذا كان لا بد من رسم خطة دقيقة لإضعاف الدب الروسي وتحجيمه ثم التفرغ للاعب الجديد التنين الصيني.

قررت أمريكا أن تلعب بالورقة الرابحة التي جربتها من قبل والتي كانت أول سهم أطلق على قلب الاتحاد السوفيتي فتفرقت حباته، إنها أوكرانيا.

بدأت الأصابع الأمريكية تغذي روح الثورة داخل أوكرانيا لينتفض الشعب ويسقط الحكومة الموالية لبوتين عام 2014 لتنتبه روسيا للمخطط فتعاجل أمريكا بضربة غير متوقعة بضم القرم ليقف العالم ويشاهد مصارعة بين الغيلان.

فترد أمريكا على ضم القرم بمواصلة استفزاز روسيا بالتلويح بضم أوكرانيا لحلف الناتو ليصبح بذلك الحلف في الباحة الخلفية لروسيا، الأمر الذي لم يتحمله بوتين لتسقط روسيا من جديد في مصيدة القرم.

لكن أوكرانيا ليست سوريا أو أفغانستان ولا حتى البوسنة والشيشان المسلمتين، فهي دولة أوربية مسيحية لن تسكت أوربا عما تمارسه روسيا عليها من حرب الإبادة وسياسة الأرض المحروقة؛ لذا فلم يستطع بوتين أن يستخدم قصف الطائرات المدمر كعادته فحشد على حدود أوكرانيا آلافا من جنوده، ثم قام بعملية لجس نبض أوربا والعالم فأعلن استقلال إقليم دومباس، فكان رد أمريكا وأروبا متخاذلًا وضعيفًا، وتوهّم بوتين أن القارة العجوز وحليفتها أمريكا أسود قد خارت قواها، فقرر الدخول الخاطف لأوكرانيا وتعيين حكومة موالية له وإذا ظل الأمر بهذا الضعف العالمي فما المانع من التوغل وإعادة مجد الاتحاد السوفيتي؟

الفزاعة

وبمجرد التوغل إلى العمق لعبت أمريكا لعبتها المعروفة (الفزاعة) فأحيت بمخيلة أوربا شبح هتلر، فانتفضت أوربا مكشّره عن أنيابها وأعلنت الجهاد الصليبي المقدس، وطلبت متطوعين للذهاب إلى أوكرانيا، هذا فضلًا عن حرب التسلح التي بدأتها ألمانيا، وهذا هو العصفور الثالث وهو جر أوربا إلى التسليح والتجييش لاستغلال جيشها.

وقد قامت أمريكا باستبعاد روسيا من نظام سويفت وهو قرار بمثابة ضرب اقتصاد روسيا بقنبلة ذرية.

والآن تقف روسيا أمام خيرين أحلاهما مر؛ إما أن تنسحب وهذا معناه نهاية حكم بوتين ونهاية أحلامه بأن يكون القيصر الجديد، وإما أن تواصل القتال بعنف الروس المعروف فيقف أمام شبح توافد المجاهدين من كل مكان كما حدث في أفغانستان التي لم تغب عن ذاكرة الروس، وينهار الاقتصاد الروسي وهو أمر لن يغتفره الشعب الروسي، فماذا سيختار بوتين؟!