عام شيرين وحسام

شيرين عبد الوهاب
شيرين عبد الوهاب (غيتي)

لا صوت يعلو فوق صوت شيرين وحسام! ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى حدوتة الجميلة والوحش ممتدة، ويكأنها وصلة طرب لا تُمل، يتحلّب ريق السمّيعة لتعاد عليهم مرة بعد أخرى، وهم في نشوة وسلطنة لا مزيد عليها.

تراجعت اهتمامات المواطن سنة ضوئية، بينما بلغت أخبار حبيب عبد الوهاب أسماع قاطني المجرات القريبة والبعيدة، فمرة السنيورة أخدت على خاطرها، وأخرى السنيورة طُلّقت وحلقت شعرها، ومن بعدها “يا تلحقونا يا متلحقوناش”، وقد وضع الوحش نفسه بين الرغيف وجاحم التنور، وصولًا إلى “عدنا والعود أحمد”، إذ إنه -فيما يبدو- “عنده داء السيطرة”.

اليوم وبعد 19 عامًا، أتيح لنا الوقوف على “جرح تاني” للعزيزة شيرين، راجين أن يكون ذلك آخر ما يصلنا من تلك القصة، وأن يتاح لإعلامنا مناقشة الاحتياجات الأساسية من لقمة عيش وكرامة إنسانية.

قبل عشر سنوات، أقسمت صاحبتنا أيمانًا مكرّرة ثلاثة بعد يمين القسم ثانيها “والنبي لو جاني/ باس إيدي كده واترجاني/ أنا عمري ما هرجع تاني/ ما بقتش أقبل أعذار”، وقد جاءك -يا ست شيرين- بصورة اهتزت في عينك وعين بنات حواء عن بكرة أبيهم، وقلنا له بناء على طلبك “إنك مش موجودة”، فلم تراعِ مشاعرنا ورجعتِ له، وكذّب فعلُك قولَك القديم، “والكلام رخيص”.

لو نظرت من سجف الغيب إلى ما وراء عواجل شيرين وحسام، أبصرت معارك طواحين هواء مدبّرة ولا عزاء لنظرية المؤامرة، فمن وقت لآخر يدور الناس في “ساقية جحا”، تأخذهم دوامة ما -عرضًا أو عمدًا- لتبتعد بهم عن بؤرة اهتمامهم وخاصة همومهم، حتى يُظن أنهم فرغوا من كل شؤونهم، ولم يبق لهم سوى متابعة سيمفونية بعينها.

قبل 100 سنة، دارت حرب ضروس لا تقل عن معركة شيرين وحسام، إذ كشّر إبراهيم المويلحي (1846-1906) عن نابه لخصمه اللدود الشيخ علي يوسف (1863- 1913)، والمعاصرة حجاب على طريقة ابن رشيق القيرواني، انبرى الرجلان في حشد الأنصار والعوان، المويلحي يتحيّن الفرصة للتنكيل بغريمه، ويفتح للكتاب باب جريدته (مصباح الشرق) حتى يقرّعوا الشيخ وينهشوا لحمه، وغريمه يؤلب أتباعه وخاصته عبر صحيفته (المؤيّد).

كانت خمّارة دراكتوس مقرًا لعدد من الأدباء، منهم المويلحي، وفي ليلة من ليالي أكتوبر/تشرين الأول 1902 اختلف مع شاب يُدعى محمد نشأت -والسبب مجهول- فرفع نشأت يمينه وطبعها على صفحة وجه المويلحي!

على صفحات (المؤيّد)، فتِح المجال للشعراء من أصقاع مصر ليكتبوا في هذه الملحمة، وإمعانًا في الانتقام خُصّص بابٌ أطلق عليه (عام الكف)، وأراد بعضهم -لعله أحد أجداد الشاعر ستاموني- أن يُغيّر الاسم إلى (عام القفا) فقال (سموه عام الكف وهو الذي/ يؤخذ من معناه أن قد كفى/ ما هو عام الكف لو أنصفوا/ لكنه في الحق عام القفا).

وفنّد آخرون هذا الاسم المقترح، قالوا إن المويلحي لم يُضرب على قفاه، وإنما على صحيفة خده، وبينهما فرق لا يستهان به، وكتب شاعر صعيدي (لي سؤال يا أهل مصر فردوا/ بجواب عن السؤال مفيد/ أي كف قد باشرت صفع خد/ سمعنا دويها في الصعيد).

وكتب ثالث (هي صفعةٌ سرّ الصحافةَ وقعُها/ ورجا بيانٌ مثلها وبديعُ/ كانت تؤملها البلاد ليرعوي/ غِرٌ ويعرف قدره المخدوع). لعلك تقول في دخيلة نفسك “ده كلام فاضي وشغل هواة، والدليل على ذلك أن شاعرًا كبيرًا لم ينزلق في هذا السجال الرخيص”، لكنك ستتراجع سريعًا حين تعلم أن شيخ الشعراء إسماعيل صبري (1854-1923) دخل على الخط، وكتب مقطوعات عدة في المؤيّد، بعضها على لسان المويلحي وابنه، وأخرى على لسان نشأت، وغيرها بلسان الشيخ علي يوسف.

يقول صبري في بعض أبياتها مخاطبًا المويلحي (أعرني يا ابن إبراهيم صدغا/ أخوض به غمار الصافعينا/ فإن هو قد أعارك ما تُرجّي/ رأيتهم أمامك هاربينا/ كما هرب الفتى الصفاع يومًا/ أمام الكاتب ابن الكاتبينا/ وخلف ثم رب الحان يجلو/ على المغلوب كأس الغالبينا/ ويغبط ذلك الصدغ المفدى/ على إرغام كف الضاربينا).

بعد عامين، جاءت صفية عبد الخالق السادات -التي ملأت الجرائد شغلت الناس، مع الاحترام لابن رشيق والمتنبي معًا- فأتاحت للمويلحي فرصة لا تُفوّت، وهي فتاة لوت ذراع أبيها وخرجت عن طوعه لتتزوج -وهي بنت الأشراف- من مجرد “جورنالجي” -هذا مع الاعتذار لنفسي ولزملائي في المهنة- وقامت الدنيا ولم تقعد، ونفخ المويلحي في كيرها، وحازت اهتمام الرأي العام، وصنّفت على أنها أشهر قصة زواج في مطلع القرن العشرين.

طعن المويلحي وبطانته في نسب الشيخ، وانبرت أقلام تلوك الزوج المسنّ بأقلامها وألسنتها ليل نهار، فهمزته ولمزته وهتكت ستره واستباحت خصوصيته، وقدحت في نسبه، وفرّق القاضي بينه وبين صفية لعدم التكافؤ، ثم سكنت ثائرة أبيها وأعادها إليه، ثم ملّها وضاق صدره بالحياة معها، وبلغ به الحال أنه كان يقضي 20 ساعة في المؤيّد ليهرب من نكدها!