آثار غربتي!

أثناء إجازتنا الصيفية في مصر هذا العام طرقت قلبي مشاعر لطالما أحسستها وتجاهلتها، لكن هذه المرة لم أتمكن، فقد كانت كثيفة إلى درجة أردت ترجمتها الى كلمات لعلها تلامس قلوب من يشعرون بغربتهم مثلي.

للغربة إيجابيات بالطبع وإلا لما طرقنا أبوابها، ولكن لها سلبيات أيضاً، فالغربة من وجهة شعوري تختم عليك باسمها فتصبح غريباً في موطنك وفي مغتربك، فها هي بلدتي التي كنت اعتدتها حد الثمالة فعشقت أراضيها الخضراء وألفت شوارعها ووجوه الناس فيها، تغيرت ملامحها فتلاشت مساحات كثيرة خضراء وحل محلها البيوت المتقابلة بلونها الأسمنتي الكئيب، واتسعت شوارعها وكثرت محلاتها بشكل دعاني للذهول، فأصبحت أحاول شحذ ذاكرتي لاستعادة الأماكن القديمة قبل تغيرها، فما عاد هذا الشارع الذي سرت فيه ذهاباً لدرس التقوية في اللغة الانجليزية، ولا ظل المسجد الذي حفظت فيه القرآن بنفس الملامح القديمة العتيقة التي عشقتها.

أتجول مع زوجي بالسيارة وفقط يتملكني ذهول ودهشة، وحسرة على تلك السنوات التي مرت سراعاً، وتوق لأيام الصبا حيث كانت أفكاري بسيطة وأحلامي صغيرة وهمومي طفولية.

ما يوجعني هو بحثي في وجوه الناس عن وجوه زميلاتي وأترابي، حتى إنني أبحث عن المارة الذين اعتدتهم في طرقي، أرى امرأة تدلف محل الحلويات مع مراهق، فأقول في نفسي لعلها امرأة تكبرني ولا أعرفها، وفجأة أنتبه إلى أنها قد تكون في نفس عمري وولدها مقارب لعمر ولدي، فيزداد شعوري بالبون الزمني والغربة!

وفي المدينة أيضًا

ترافقني كل هذه المشاعر لا مع بلدتي فحسب بل مع المدينة الكبيرة التي اعتدت الذهاب إليها كذلك، ورغم هذه المشاعر إلا أنها مؤقتة ولا ترافقني كثيراً طوال إجازتي أو سفري، ما يرافقني هو شعور عدم الاستقرار، فأنا في غربتي تنقصني أشياء كثيرة، وفي موطني أضجر من أشياء أخرى فأتوق لغربتي!

ليس هذا فحسب بل إن البوصلة الاقتصادية ترتبط بهذا القلق وهذا الشعور المتذبذب، فنحن لا ندري كم سنمكث في غربتنا ونستقر في موطننا، فنؤجل شراء أشياء ونصبر على فقد أشياء ويستمر هذا الشعور لسنوات.

أكثر ما يشغل تفكيري أطفالي، فنحن قد بنينا ذكريات في مصر مع أهلينا وأصحابنا، تعلمنا من الاختلاط بالمجتمع أشياء كثيرة، مشينا في الشوارع والدروب، كذلك العادات المنكهة البديعة التي ترافقنا في رمضان وفي الأعياد وفي مناسبات كثيرة دينية ووطنية ، قرآن الفجر-الذي أشك أنه موجود في بلد آخر غير مصر- الذي يضفي شعوراً طاغياً بالروحانيات يدفعك لاستشعار هذه اللحظات الثمينة من الليل، وقرآن المغرب في رمضان وترقب مدفع الافطار، وصوت إذاعة القرآن الكريم خاصة في الصباح ينبعث من أماكن كثيرة: من المطاعم الصغيرة وبعض الحافلات الصغيرة وكثير من المحلات، كل هذا لم يعايشوا منه الكثير أحكي لهم عن أشياء كثيرة ولكن لا أعرف هل استوعبوها أم لا؟!

سمراويت

ذات مرة قرأت رواية سمراويت لكاتبها “حجي جابر”، هذه الرواية صدمتني بشكل عنيف، فهي تحكي عن شاب إرتري ولد ونشأ في جدة بعد فرار أسرته من الحرب، وتعايش مع مجتمعه وتآلف إلا أنه سيواجه بعد حينٍ صدمات تدفعه للبحث عن موطنه وتذوقه، بعد قراءتي لهذه الرواية أصبحت أؤكد لأولادي على مصريتهم، وأنهم وإن ولدوا وعاشوا هنا في الغربة فهذا وطننا الثاني -رغم حبي وحبهم لهذا البلد- إلا أن هذه الحقيقة يجب أن تظل في مكان ما من روحهم وعقولهم حمايةً لهم من أيِّ صدمةٍ في مستقبلهم.

“في السعودية لم أعش سعودياً خالصاً، ولا إرترياً خالصاً. كنت شيئاً بينهما. شيء يملك نصف انتماء، ونصف حنين، ونصف وطنية..”

اقتباس من رواية سمراويت.