نظام التفاهة

نظام التفاهة للعالم الكندي آلان دونو

التفاهة هي العقم واقعا في موجود، مثلا تجد شخصا حافظا للمعلومات لكنه عقيم في إدارة معلوماته، أو مدافعا عن الليبرالية والعلمانية، بينما هو يفرح بغلبة الدكتاتورية والطغيان لمجرد أن المغلوب مخالفه، لكنه مع هذا يدعو لليبرالية ويتخذ من العلمانية عصبية لا تختلف عن متطرفي الأديان، فهو متطرف ضد الدين في فهمه للعلمانية، والعلمانية مصطلح غربي يعني فصل المؤسستين السياسية عن الدينية، والعداء إذن عقم يشير لثقافة التفاهة.

المثقف والخبير المحترف

في البدء، فإن من التفاهة أن تطالب الإنسان بالالتزام بالقيم وأنت لست نموذجا لها، بل النموذج الذي صنعته هو استغلال للقيم، وتحدث الناس عن الصبر على الجوع وأنت تتجشأ من التخمة، أو عن العمل التطوعي وأنت تأخذ أموالا بلا عمل حقيقي يستحق تلك الأموال وتحللها لنفسك بقانون شرّعته أنت يشرعن الاختلاس، من باب أولى أن تصنع نموذجا مرفها ثم تخاطب الناس أن يعينوا الآخرين ليكونوا مثلهم، عندها ستكون مصلحا ينقذ الناس من التفاهة.

كتب عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ): “قال أبو علقمة: كان اسم الذَّئب الذي أكل يوسف رجحون! فقيل له: إنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، قال فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف!”، كذلك حال المثقف في عصرنا الذي يبرر لتفاهة المتسلطين أفعالها ويؤولها وسرعان ما يقلب منطقه إن اكتشف أنه مخالف للمتسلط الذي يمتدحه، بعض من المثقفين -ولا أعمّم هنا من أجل الحقيقة- تحت مسمى خبراء في واقعنا هم في الحقيقة يمتهنون هذه التجارة بالكلمة وترى قسمًا منهم ينتقل مرة للشرق ومرة للغرب وأضحت مهنة على فاتورة الفضائيات أو الجرائد والمجلات، وهذه الطبقة ليست سيئة حتما وإنما استسلمت أمام ضغط عالم التفاهة من المتسلطين على أرزاق الناس وحاجتها للعيش كأي بشر تحركه حاجاته وغرائزه هم، فيصمد من يصمد ويخرج من يخرج ليتخلص مما يرى فيه ذل الحرمان، لكن هذا يصبح سلوك نفاق يسمى سياسة عند بعض النخب، حيث تهاجم بشدة ثم تعود لتبرر لما هاجمته بل تدعوه للصمود على خط الإعمار.

إن مشكلة المثقف مع تولي التفاهة أمور العباد في العالم كله وامتلاكها القوة والقرار وتبرير تدمير الشعوب والبلاد ورعاية التخلف وفساد العباد هي أن يصمد أو يُسمع، ففي عالم مخرجات التفاهة أن التنظير والتفكير والدراسة والتخطيط هي شتيمة وعيب في الانسان، فلا بد من أن يكون المثقف صامدا راديكاليا كما قال آلان دونو مؤلف كتاب (نظام التفاهة) بمعناها الأساس وهو (الإصلاحي)، وليس بالمعنى الممسوخ لها في زمن التفاهة (المتعصب العنيف)، لست أبرّر لمثقف يدمر الرأي العام بيد أني أصف واقع التفاهة وليس واقعا صحيا يكون فيه المثقف قائدا للتفكير السليم، والسياسي متصديا لمصلحة الامة وليس لمصلحته أو جشع ذاته، والقائد متصديا لجمع الشمل والحفاظ على الكينونة والهوية لأمته.

التفاهة في الساسة

انظر حولك في محيطنا، فندرما نجد رؤية واضحة متعلقة بالهوية، ربما تخطيطا ومناورات سياسية مصاغة من خبراء لكن في دول صغيرة احتاجت هذا الأمر للمرور بقواربها عبر الأمواج، أما الكيانات الوظيفية فهي تبدو تمثل دور مندوب للتفاهة الخارجية في تخلفها الآدمي بالسيطرة على مقدرات الشعوب، وهي تحاول الإبداع في تخريب محيطها من أجل البقاء، لكن هذا يعجل من انتهاء وظيفتها من حيث لا تدري، وتلك لضعف النظر، تظن هذه الدول الوظيفية أنها ممكن أن تبقى لتقوم بوظيفة أخرى لكن هذا ليس واقع الحال.

التفاهة ومنظومة تنمية التخلف

التفاهة في الحقيقة مظهر من تسلط منظومة تنمية التخلف على الأمم وارتقائها كالطفيلي في الجسد الذي تعبر عنه أفلام الخيال العلمي خارج المنطق، والتفاهة وسلطتها على البشرية فعلا أمر خارج منطق الآدمية وإنما هي دليل على تراجعها إلى الإنسان الأول جاوة أو النياندرتال، لا بل أكثر وحشية عندما يستخدم منظومته العقلية في إحداث الشر والصراعات التي تحيّد الانسان عن مهمته الحقيقية في التعارف والبناء، بل استغل نظام التفاهة أدواته لتشويه الأفكار ومنعها، وشيطنة ما يراه يمنع جشعه أو استعباده للآخرين.

ناهيك بمخرجات في العالم المتخلف من طغاة ومستبدين وما لا يحتاج من وصف لهم في سلوكياتهم وقيمة الظلم في سلوكهم وحبهم للظلم وهذا غاية في التشوه الآدمي في عالم تافه بمخرجاته ويتطلب إعادة تنظيم وحركة ويقظة فكر من أجل الآدمية والحفاظ عليها، فما قيمة الانسان بسلوك حيواني يستمتع بأذى أخيه الإنسان ولا يرى ذلك ظلما بل يراه عين الصواب.