سطوة الانطباع الأول!

سوزان بويل
سوزان بويل (غيتي)

يلعب الانطباع الأول دورًا في حياة كثيرين، يخدع أغلبية لا بأس بها، يستثمره آخرون ويوظّفونه لتمرير مخططاتهم، بينما لا تنطلي المسألة على عدد من الناس، وإن كانت المسألة نسبية؛ فلماذا يأخذ الانطباع الأول مساحة كبرى من تفكير كثيرين وقرارهم؟

لست في حاجة لقراءة هذا المقال! أنت تعلم جيدًا أن الانطباعات الأولى تدوم، وتدرك تمامًا أن الانطباع الأول يرسخ في الذهن رسوخ الوشم في الجلد، لكن ما لا تعرفه أن آخرين يستغلونك من خلال هذا الانطباع! وفي ذلك ما يحدوك لمطالعة هذه الكلمات؛ خذ مثلًا برنارد مادوف، مانفريد شميدر، باباني سيسوكو، بي آر شيتي، هؤلاء ثلة من رجال الأعمال الذين استغلوا الانطباع الأول في الاحتيال والنصب ليس على أفراد فحسب، وإنما على كيانات اقتصادية ودول وربما العالم كله!

إن كان إيمانك بالانطباع الأول لا يخامره الشك فلا حاجة لك بقراءة هذه السطور، أما إن كنت تتشكك في سطوة هذا التوجه، ويقلقك انتهاز بعضهم لشيوعه وذيوعه، فلربما تجد شيئًا ما يبعث على التفاؤل.

في 12 أبريل/نيسان 2009، وقفت أمام جمع غفير من الناس، وضعت كل آمالها في هذه الدقائق، وضعت تحت قدميها كل إهانة سمعتها، ابتلعت تهكم الناس وسوء معاملتهم، تناست مظهرها الذي كثيرًا ما قُيِّمت من خلاله، والانطباع الأول الذي حرمها حياةً يحظى بها كثيرون. تنهّدت طويلًا وهي تتذكر والدها عامل المناجم البسيط، وأمها القروية التي تحمل في صدرها غُصة قديمة، وتشعر تجاه ابنتها بالذنب منذ لحظات حياتها الأولى، تجتر الأم طويلًا مشهد الولادة المؤسف!

ومبعث أسف الأم أن لحظات الولادة كانت قاسية، أنجبت الأم على ارتفاع سنها وبعد 9 أبناء أرهقوا جسدها وأوهنوا عظمها، وفي 15 يونيو/حزيران 1961 كان ميلاد صاحبتنا، عانت الوليدة من نقص الأكسجين بدرجة شديدة، والرعاية الصحية في قرية بلاكبيرن الإسكتلندية ليست على مستوى عالٍ، ما أدى إلى مضاعفات أعقبت الولادة، وأصيبت الطفلة جراء ذلك بتلفٍ جزئي في الدماغ.

بفطرتها أدركت الأم أن العيش قاسٍ، وأن ابنتها لن تظفر بوظيفة تؤمِّن لها مستقبلها، لا سيّما وأن أعلى وظيفة قُبلت فيها لا تُشجع على الإطلاق؛ فماذا تفيد من وظيفة مساعد طباخ؟! الكل ينعتونها بـ”الغبية”، وصفٌ التصق بها التصاق الأدران بالأجسام، والسبيل إلى إزالته يكاد ينعدم، ولا مناص من التغاضي والتغافل و”ليقضي الله أمرًا كان مفعولا”. وجدت الطفلة سلوة في الغناء، وشجعتها أمها حين رأت أنه المتنفَس الأوحد لابنتها، ربما تكون هذه الموهبة بذرةً تحتاج للرعاية حتى تثمر يومًا ما، وحين بلغت سن الثانية عشرة قررت أمها العناية بالبذرة فاصطحبتها إلى مراكز تعليم الغناء.

وفي المدرسة، لم تحظَ الفتاة باحتواء أهل التربية والتعليم، أساؤوا إليها ووهبوها شهادة “التخلف العقلي”، مسألة ليست جديدة على الإطلاق، رموا من قبلها توماس إديسون بالغباء، ومنذ سنوات قلائل اتهموا بن كارسون بالتهمة ذاتها، وماذا بعد؟ تراجع هؤلاء -ولو كان ذلك رغمًا عنهم- أمام الحقيقة، قد يغالطون -لمدة تطول أو تقصر- ثم تدور الأيام دورتها، ويعتدل الميزان بعد ميله.

وعلى منصة Britain Got Talent، استرجعت المرأة لحظات 47 ربيعًا مضت وانقضت من حياتها، ابتسمت ابتسامة تحشد في طياتها معانٍ مختلطة، لم تعبأ بوصف أهل الاختصاص لها بـ”الأرنب الخائف”، ليس جديدًا أن تُكال لها الإساءة، ليس غريبًا عليهم أن يحقِّروا من شأني، أو ينظروا لي نظرةً دونيّة، لكنني اليوم سأبذل نكيثتي لأغيِّر المعادلة قدر استطاعتي.

تذكرت غدر الأيام وتقلّب الحدثان؛ فقبل 24 عامًا مات أبوها المكافح تاركًا 10 من الأبناء، بعدها بأربع سنوات فقدت أختها، ثم فقدت أختًا ثانية بعد 5 سنوات جراء إصابتها بالسرطان، ها هي العائلة الكبيرة يتساقط أفرادها تساقط أوراق الشجر، وجاءت القاصمة بموت أمها.

تحدّث نفسها: ليتكِ معي الآن يا أمي، لقد شاء القدر أن يخطفكِ مني قبل عامين، سيتاح لي الآن أن أغني، هذا حلمي الوحيد في الحياة، وضعت كلَّ أملي في صوتي، إذ لا أملك وسامة الفتيات ولا ذكاء بنات جنسي، من المؤسف أن يعتمد المرء على مصدرٍ واحد، وليس لي سوى حنجرتي، ولئن خذلتني فلا منقذ لي ولا مصدر رزق. هذه أهم أمسية في حياتي، سأتشبث بكل قشة أمل في بحر الحياة، ولن أفرِّط في أملي على الأقل هذه المرة.

رددت في نفسها قول إنسان بسيط، جاء من جزء آخر في شرق المعمورة، من قرية صغيرة تتبع لجزيرة توكونوشيما اليابانية، غيَّر بحلمه وإصراره الشيء الكثير، لم يغير مجرد حياته وحده وإنما المنظومة الطبية في بلاده بأكملها، رددت مقالة “إن المرء عندما يتحدى ويركز في سبيل إنجاز مهمة محددة، ويضع في تلك المهمة كلّ طاقته، فمن شأن ذلك أن يضاعف من قدراته شيئًا فشيئًا، ويجعله يحقق وينجز ما لم يكن يتخيّله”.

لقد وصفوني في صغري -ولا يزالون على الحال ذاته- بالغبية والسخيفة والمعتوهة، لا بأس فقد قال الدكتور توراو توكودا إن “الغبي ينجح”، وأنا وفق ما وصفوني “غبية”، وسأبذل ما في وسعي لأنجح، لعلّها لحظتي التي لا تُفوَّت ولا تُعوَّض.

حانت لحظة الأداء، شجّعها ذلك على أن تحلم حلمًا كبيرًا، لم يكن وليد اللحظة، ومع ذلك تهكم المحكمون عليها وهوَّنوا من طموحها، إذ سألوها: من تودين أن تكوني مثله؟ فأجابت بأريحية: إيلين بيغ! تغامز المحكمون والجمهور، من تلك البلهاء! هذا قولهم ولو بشكلٍ ضمني، حسنًا هاتِ ما عندكِ، وكثيرون تهكموا وقليلون تعاطفوا، ومع الثانية الرابعة احتبست الأنفاس، وولدت مطربة عملاقة بتاريخ هزيل أو قل تاريخ مرضي وتلف دماغي مع سيرة ذاتية أقل من عادية!

ونهاية مايو/أيّار 2009، جاءت في المركز الثاني بعد فرقة (دايفر سيتي)، واللافت أنها غنت مع إيلين بيغ في خريف العام نفسه، وحصد المقطع أكثر من 54 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب، واستضافتها أوبرا وينفري، غنت أمام الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، والملكة إليزابيث الثانية وبابا الفاتيكان.

ومع النجاح الكبير، لم تُنسف أسطورة الانطباع الأول، إذ لم تسلم المرأة من غمز المجتمع ولمزه، لا سيّما ممن يحكمون على المرء بمظهره، يتساوى في ذلك بعض المثقفين والفارغين، إذ لم يتردد بول هنري مقدّم البرامج بالتلفزيون الهولندي من أن يصفها بالتخلف العقلي، واعتدى عليها بعض الصبية غير مرة، وأصيبت بعد ذلك باكتئاب شديد.

تكاثرت عليها الهموم، يطالبها أخوها بدفع 50 ألف دولار وهددها بالانتحار، ولم تجد بدًّا من دفع المبلغ له لتحافظ على ما تبقى من أسرتها، لم يدق الحب باب قلبها حتى بلغت الثالثة والخمسين، ربما التفت الرجال لثروتها وللثراء بريقٌ خلاب، ولعلّ السبب ذاته -الثروة- أيقظ في النفوس اهتمام البعض بها والتقرّب منها، وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2010، قالت في مقابلة مع أوبرا وينفري عن نظرة الناس لها وتعاملهم معها بعد الشهرة: “تحسّن الأمر قليلًا بعد نجاحي، كان الناس يحرقون ملابسي بأعقاب السجائر، كنت هدفًا لسباب الناس، وما زلت أشعر بشيءٍ من القلق والشك”.

بعد أربعة أشهر، طرحت ألبومها الأول وحقق الألبوم أرقامًا قياسية لم تخطر لها على بال، ففي الأسبوع الأول من عرضه بالأسواق كان الأعلى مبيعًا في أمريكا منذ 1991، والأعلى مبيعًا في تاريخ بريطانيا خلال الأسبوع نفسه، وبلغت مبيعاته 5 ملايين يورو، وبيعت منه أكثر من 18 مليون نسخة عالميًّا، كما تربع في المركز الأول بموقع أمازون، ولاحقًا كتبت مذكراتها “المرأة التي وُلدت كي أكون”؛ إنها سوزان بويل!

 

المطربة الإسكتلندية سوزان بويل
المطربة الإسكتلندية سوزان بويل (غيتي)

في ديسمبر/كانون الأول 2013، أعلنت إصابتها بمتلازمة أسبرغر، والتي تمثِّل نوعًا من التوحد، وقالت في حديث لمجلة الأوبزيرفر Observer إنها تشعر بارتياح عميق، وفسّرت ذلك بأن فهمها لحالتها الصحية يُشعرها بكثير من الراحة، وإن كان هذا التشخيص لا يغير شيئًا من واقعها الجديد.

يعتمد الانطباع الأول على المظهر بالدرجة الأولى، ربما بحاسة الشم كذلك إن أتيحت الفرصة؛ فالعطر يخلب الأنفاس كما أن الهيئة الخارجية تداعب الأعين، والبقية قد تأتي ويتطابق المظهر مع الجوهر، وقد لا تأتي وينخدع الناس بالبرق الخُلب.

عندما تؤمن بحلمك فأنت تبدأ مسارًا مهمًا في حياتك، هذا ما فعلته سوزان بويل، وقد تحتاج إلى مرشد أو مساعد أو معين، تمثّل ذلك في والدة سوزان، أو طرفٍ خارجي مثل معلمٍ أو مفكرٍ أو فيلسوف، أو حتى إنسان بسيط يملك مقومات تحفيز الآخرين وتشجيعهم على تفعيل قدراتهم وتعظيم الإفادة منها.

لا يغيب عنا -في هذا المقام- دور الطبيبة البرازيلية نييس دا سيلفيرا (1905-1999)، والتي كابدت المشاقّ لتُخرجَ من مرضى نفسيين أفضل ما يمكن، وتنظِّم لهم بمساعدة الناقد الفني المعروف ماريو بيدروسا معرضًا فنيًا باسم “معرض فنانين إنجهنو دي دنترو”، وتحولت قصة هذه الطبيبة إلى فيلم سينمائي عنوانه Nise The Heart of Madness 2016 وبه من معاني المثابرة والإنجاز ما يغرينا بتتبّع أحلامنا، ومتابعة الطريق مهما بدت أحلامنا غير واقعية لمن حولنا.

بوستر فيلم نيس قلب الجنون
بوستر فيلم نيس قلب الجنون (مواقع التواصل)

في هذا الفيلم، تتكرر جملة “البذور يجب أن تُزرع” مرارًا على لسان أحد نزلاء المستشفى، لو أنعمت النظر في هذه الجملة لخرجت بفلسفة مكثَّفة، لا مبالغة في ذلك على الإطلاق وسأثبت ذلك ببساطة. لوهلة، تخيّل نفسك بذرةً معلَّقة في الهواء، هل ستنبت؟ ماذا ستُثمر بذرة بهذا الشكل وفي هذا المكان؟ البذرة مكانها الطبيعي أن تُدفَن، هناك في الأعماق والظلام الذي لا ترصده كاميرات الفاشونستات والإنفلونسرز يمكن لها أن تنطلق وتعبّر عن نفسها، ومن الظلام يولد النور، وبضدها تتمايز الأشياء.

قد تطول مدة بقاء البذرة في الأرض؛ فـ”البذور يجب أن تُزرع”، ولكنها تعبّر عن نفسها أبلغ بيان -ولو بعد حين- تعبيرًا يعوضها مرارة الدفن بعيدًا عن الضوء، وفي الحكمة (من تصدَّر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه)، وقبل الزبيب يأتي الحِصرم، ومن تزبَّب قبل أن يتحصرم فتأثيره لن يطول، وبقاؤه في دائرة الضوء مؤقت؛ فلا تتعجّل الظهور وتمكّن من أدواتك، و”لكل أجل كتاب”.

لو قفزنا للوراء قليلًا، لوقفنا على نماذج عدة ظُلم فيها الناس وصُنِّفوا تأسيسًا على لونهم أو مقدار وسامتهم أو منزلتهم الاجتماعية، وما أكثر الذين يسقطون في فخ الانطباع الأول، ولله الحمد والمنة أن أبا الأسود الدؤلي والفرزدق وابن المقفع والجاحظ وبشار بن بُرد قد ظهروا قبل شيوع مصيدة الانطباع الأول، وإلا لنبذهم الناس وراء ظهورهم بدعوى أن “الجواب يبان/يظهر من عنوانه”، ودمامة هؤلاء خير دليلٍ على سخافة بضاعتهم!

وللأمانة نقول إن الانطباع الأول من العادات التي تحتاج إلى إعادة نظر، كانت لنا دندنة على هذا الوتر في وقفتنا مع حكمة ابن جاخ الأندلسي، ووقفات سبقته، ولنا عودة قريبة للأهمية والضرورة معًا.